تمور بنا النصائح بلا مستقر ولا ثبات، ولا نعرف للنصح محلًا، قد نتراضى سمعًا لبعض النصائح الموجهة إلينا بـ”هزهزة رأس” دون كلام، لينقضي الموقف بسلام، وجوابنا صد ونفور ولا صدى يُذكر، سخط بصمت وتذمر بجفاء، مرددين لا جدل ولا محاججة، السكوت من ذهب وليذهب طنين النصح أينما يذهب وليبقى رأينا طي الكتمان.
كم وكم تتساقط علينا أوامر النصح كل يوم عبر الصحف الإلكترونية و”الواتس آب” وبعض وسائل الإعلام المختلفة، تأتينا من مختلف الشرائح والمشارب، بعضها تفزعنا فزعا وأخرى تصفعنا تقريعًا وتوبيخًا، كأننا نيام على وسائد الذنوب!
كم نجفل من متتاليات النصح المتسمة بالغلظة، المسرفة في العسر التي لا تعرف لليسر محلًا، قبولنا يتأرجح بين الاستجابة المضضية أو التمرد وأحيانًا ينتابنا عزوف عن سماع أي نصح وحتى الناصح نفسه ننفض من حوله.
كم من نصح أثقل المسامع ضجيجًا باشتباك وصخب، وأورث نتائج عكسية لأن أسلوب النصح كان صادمًا.
ينبري المتفيهقون الذين حفظوا شيئًا وغابت عنهم أشياء بخطاب نصح مجلل يهز الأرض من تحت أرجلهم زعيقًا وهزًا، ويظنون أن السامع سلم لهم الأمر، والحقيقة أنه يشيح بوجهه ويغض الطرف عنهم وينسى أية مصداقية تحملها نواياهم، فهم يقذفون بنصائح توبيخية محملة بطائفة من التحذيرات الصارمة والمواعظ الحادة، نصائحهم لا تبقي ولا تذر، تشمل الكل دون استثناء، وكأن الجميع ضائعون تائهون سادرون في وحل الأخطاء والخطايا.
هل غاية قائليها أو مرسليها أن يوجهونا كل يوم لمسار السلوك القويم حفاظًا على حياتنا ومكانتنا، أم حرصًا متفانيًا صرفًا لوجه الله، قد يكونوا بالفعل دعاة خير، لكن لماذا التشدق دومًا بحمل راية الوصاية على عقول الناس بنصائح اجتهادية في كل صغيرة وكبيرة، وكأنها الهادية إلى سواء السبيل؟ والأغرب تأكيدهم المبطن بوجوب التسليم لما يطرحونه دون مناقشة أو تحليل!
يا أيها الناصحون؛ هل كل نصح يستجاب له طوعًا وفي الحال، وكم من نصائح ثمينة وغالية تمثلها أصحابها حماسة لفترة وجيزة ثم مع الأيام ضربت عرض الحائط! وذهبت رسائل النصح هباء منثورة.
إن موضوعات “النصح” في حد ذاتها قد تكون مطلبًا أو ضرورة ، لكنها مع الأسف تغلف بالأوامر الصارخة وبالقطعية الصارمة، وتنبرئ بالويل والثبور، وتتعنتر بالتهديد والوعيد، وأيضًا قد تبدو بعض النصائح في ظاهرها أنها عين العقل، وسرعان ما تكتشف أنها مشحونة بحزم تخويفية وتهويلية تشير نحونا دائمًا بالاتهام والتقصير؟
رب قائل يقول: “ما أسهل صياغة المواعظ وطرحها على رؤوس الأشهاد، ما أسهل أن يعض الإنسان غيره وما أصعب أن يعض نفسه”، وما أكثر النصائح الجامحة المنفلتة من عقالها، والهائجة التي تضج مسامعنا، وترمينا بشرر من مختلف الوسائل والوسائط، تأتينا من كل مكان، ومن مختلف الأطياف والأعمار، كل يفتي فتواه وينفث بما يعتقده هو الصواب الحق وما دون ذلك باطل، البعض تأخذهم العزة بأنفسهم وكأنهم رسل السماء نزلوا لانتشال الأمة من الهلاك والضياع، وكل من يخالفهم فهو مظل باغ، خارج عن الملة، وليس من الفرقة الناجية، ضجة نصحهم تفتك بأسماعنا مهللين هذا ما قاله السلف؟
طنين العنعنة أورثهم ظنونًا لا فكاك منها، فنصبوا أنفسهم حراس فضيلة المنزهين في الأرض، النرجسية الحفظية رسمت لذواتهم أنهم عقلاء الأمة، يأخذهم سراب المثوبة عطشًا لقول أي شيء وفي كل شيء، يتأبطون بنصائح أمرية محشوة بأوهام الفهمنة والتمظهر الذاتوي؟ “يا أيها الناس اسمعوا وعوا..”، خطاب نصح ما ملوا من صيغته الماضوية لم يزل يعشش في أدمغتهم المتأزمة، كأننا بينهم عميان في صحراء قاحلة نمتطي الجمال العرجاء.
ومن المدهش إذا تمثلنا النصح بصورة الأتقياء الأنقياء لإيهام أنفسنا والآخرين بأننا على الصراط المستقيم ماضون، ونحن على العكس من ذلك تمامًا نخفي في دواخلنا الخلل والعطب، وتكمن المفارقة بأننا ننسى أنفسنا المحتاجة أساسًا للنصح والتقويم!
لا ننظر لدواخلنا بتجرد وإنصاف، نواجه الغير بالنصح ونستبيح العذر لأنفسنا، نتستر في لجة الخفايا والتمترس خلف المرايا، نبدي تلونًا على السطح بقشور شكلية مداراة للأعين، وأمام الأشهاد نتبجح بنصائحنا التائهة.