“فلتعذرنا أيها الورد على أفكارنا نحن البشر جميعًا، إن فكرنا يومًا في سحق أوراقك؛ لنصنع منها عطرًا لأحبابنا ، أو قطفناها بلا مراعاة لنكتب عليها قصائدًا”.
الجو رائع في الريف، حيث الهواء النقي، والحقول الممتدة، والمروج الخضراء، حيث الحياة البدائية والبساطة ورمز السكون، وحيث هذا المجرى الطويل الذي ليس له رأس، وكأن عنقه التوى، وملّ من المضي قدمًا، فعاد ليشكل خطًا آخر من الماء، وأيضًا هناك الأزهار الكثيرة والورود العطرة الملونة، التي تمتزج بالجمال في تدرج ألوانها، وتتناثر كالفرح أسفل ذلك الجبل العجوز، الذي لا يرى جبينه من كثرة الغيوم، وخيوط أشعة الشمس التي تخترق الغيوم، وكأنها شعر طويل ذهبي اللون، فهناك خلف هامته منبع طفولتي وحيث يكمن بيت جدي.
وصلنا أخيرًا، أنا وأحمد وسارة، وها هما متحمسان جدًا، للجري، والقفز بين الحقول، والأشجار.
ما أجمل منظرهما مع ملاحقة الفراشات بين الأزهار، كعادتهما في كل لقاء؛ بعكس المدينة التي تفتقر إلى أسمى معاني الهدوء، والراحة، والطبيعة، وحتى الأمان، حيث إنها تغرق في الإزعاج، والضوضاء، والازدحام .
كان جدي وجدتي كالعادة يقفان أمام السور الخشبي ينتظران لبضع ساعات شوقًا لرؤيتهما، نعم ذلك السور الذي لم يتغير منذ أن وضعه جدي؛ لكي لا تهرب الأرانب الصغيرة بعيدًا، ما زلت أذكر ذلك حتى الآن.
نزلت سارة الصغيرة، التي لم تكمل الأربعة ربيعًا، والتي كانت أمنيتها قبل ليلتين أن تصل قبلنا، لتقطف وردة جميلة، حمراء اللون لتضعها فوق قبعتها الجديدة، نزل بعدها الطفل المشاغب أحمد، والذي للتو سيبدأ عامه الدراسي في المدرسة، فتسابقا حيث الشجرة الكبيرة، وتوجهت ناحية جدي وجدتي، وعانقتهما عناقًا حارًا، وأغمضتُ عينيّ، وملأت صدري وعقلي بتلك الرائحة العتيقة الريفية، وذكرياتي الطفولية المشبعة برائحة الخبز الطازج، لقد اشتقت إلى هذا الحياة، فالعمر يمضي سريعًا بالمدينة.
كان جدي يصرخ على الكلب كالعادة، لأنه شرس، ومزعج، وغير مطيع، وقد ذهب مسرعًا نحو الطفلين، وجدي خائف أن يهجم عليهما، لكنه لم يستجب لصراخه هذه المرّة.
ركض جدي في اتجاههما بدون شعور، وأنا أصرخ وأكرر: جدي ما الأمر؟ قل ما الأمر؟
حاولنا الوصول بسرعة، لكن الكلب كان سريعًا جدًا، فقد وصل قبلنا، إنني أراه من بعيد يصرخ على الطفلين، وبكاء أحمد وصراخه خوفًا على أخته التي بين أقدام الكلب وهو يرى الدماء بين أنيابه، وقلبي الذي كان يصرخ ويخفق بشدة في كل صرخة تخرج من أحمد بصوت عالٍ.
وصلنا أخيرًا، وكلي أمل بأن تكون سارة بخير، ولكن بعد فوات الأوان، كانت الدماء منتشرة بالأرجاء، ما زلتُ أصرخ بلا وعي، سارة.. سارة.. سارة..
نبح الكلب في وجهي، وملامح وجهه الملطخة بالدماء، لا تبارحني.
خرجت سارة من بين قدميه، والابتسامة تشعُّ في وجهها القمري، وفي يديها وردة حمراء، ضممتها لصدري بلا شعور، فقد كدت أن أفقدها في لحظة.
شكرت ربي وتمتمتّ:
الحمدُ لله رب العالمين، لم يصبهما أذى، فالكلب مزّق الثعبان، الذي كاد أن يلدغ سارة محاولًا حماية بيضه، والذي لم يتأذ أيضًا، لأن الثعبان كان يلتف حوله بإحكام، وبقية الورد والأشجار تبكي نحيبًا على فقدها وردة دون أن يراعيها أحد!!