الحياة كائنة رغم أنف الخيبات

الحياة هي ما نقرر أن نعيشه لا ما ننتظره أن يسقط مرتطمًا بخيباتنا.. قد يمر علينا وقت نجد فيه أننا وصلنا لقناعة شبه تامة بأننا نريد أن نعيش حياتنا فقط.. لا نبالي بشيء.. لا قصص حب محبطة ومتأخرة، ولا علاقات ممزقة ومضطربة، ولا صداقات زائفة ومتغيرة، لم تصمد أمام الزمن ومتغيراته، ولا جراحًا نازفة في معارك مستنزفة تنال منا فننتفض لها بكل طاقاتنا وعقولنا ودهشتنا وخيباتنا مجتمعة..

نريد فقط أن نحيا بسلام مع من رغب بذلك معنا.. لعل هذا ما يسمى بمرحلة النضج وإن جاءت متأخرة، إلا أنها جاءت أخيرًا..

النضج في العلاقات والاكتمال فيها بتقدير أو تصريف إضافي وليس بحساب العمر وساعاته فحسب.. فكثير من الأشخاص الذين عرفناهم بحياتنا تخطوا حدود النضج العمري لكن مستواهم العقلي والتجريبي فوضوي وأحمق.. وكان وجودهم في حياة من يعرفهم وبالًا عليهم أكثر من كونه إضافة لهم..

كانت تتساءل رفيقتي قبل أيام؛ لماذا لا يقدر لنا أن نعرف بعض الأشخاص الجيدين في فترة مبكرة من حياتنا لعلنا ننجو من الحزن والإحباط؟ ولربما تغيرت حياتنا للأفضل بفعل هذه المعرفة وتخلصنا من الكدر ومحاولات القفز فوق أسوار الشقاء الذي نعيشه، على اعتبار أن بعض العلاقات تبدو ناجحة أكثر ومحفّزة للمرء، ومطيّبة لكثير من الجراحات والخيبات على المستوى الإنساني عمومًا، وعلى المستوى الإنتاجي خاصة في خلق طاقات الإبداع و التفكير الإيجابي.

قلت لها:
أتصور لأجل أمور كثيرة أنا وأنتِ نجهلها تمامًا.. لكن أنا لست متأكدة من ذلك؛ وهو أنه لا بد أن نمر بمراحل كثيرة وأُناس ومواقف وأحداث مؤلمة وحزينة، ومتعبة ومفرحة كذلك، لأجل أن نلتقي بمن يشابهوننا ويكملونا، ونستحقهم ويستحقونا، فنكون بمستوى النضج المناسب والمعقول الذي يجعلنا نتقبل بعضنا البعض ونتفاهم ونتآلف ونتعامل به، فلولا مرورنا بكل التجارب السابقة لما اكتملت لدينا مرحلة النضج..

وهذه الأمور تدخل في نصاب التقدير الإلهي والحكمة في وجود علاقات جيدة أو انتهائها لأنها لم تعد مناسبة لنا تمامًا أو أنها أنهت دورتها ومرحلتها منا.. وبعض الفراقات رحمة لا ندركها إلا متأخرين، وهذا بالضبط ما قلته للشابة الصغيرة ذات الـ18 عامًا والتي زارتني في عيادتي قبل أيام بعد تجربة انفصال سريعة وقاسية تعرضت لها، بدأت في تحويل مسار حياتها للدهشة..

فالعلاقات وجدت للإضافة والاكتمال وليس العكس.. وبغض النظر عن الخلافات، ومحاولة الاستمرار والاستبقاء فيها من أي جهة، فإنه بانتهائها يمكننا النظر للأمور من زاوية سلامة الداخل وصدق النية، وأننا لسنا من بدأ في الخذلان، وهذا وحده يعطينا حالة السكينة والاستقرار للمضي في ترتيب أوراقنا، بمحاولة إيجاد سبل أخرى لمناقشة الحياة في مهامنا معها، ببياض قلوبنا وبنور سرائرنا..

ولذا قرري أنت كيف ستعيشين حياتك وبأي طريقة، فلستِ مسؤولة تمامًا عن ألم تجربتك وإنما عن ترتيب درجتها في حياتك، والمهم أن تنضجك التجربة وتخلق منك شخصًا أفضل قادرًا على تجاوز الخيبات..

فالاشخاص الذين يستغلون الزمن في جودة العلاقات وتدعيمها وجعلها إضافة لهم ولرصيدهم الحياتي.. هؤلاء يتمتعون بالذكاء الاجتماعي .. أما الذين يرمون بعلاقاتهم الزمنية والعمرية خارج إطار عمرهم دون أسباب حقيقية أو منطقية لذلك، فهم حتمًا حمقى، لم يسعفهم ذكاؤهم في ترتيبها بدلًا من نكرانها فجأة.. إذ أن الأولى هو محاولة ايجاد صياغة رقمية ناجحة لترتيب الأهمية والأولويات لا نفيها تمامًا..

فمقياس العلاقات بحسب أهميتها متدرج في ترقيمه، ولا ضير من إعادة الترتيب للأرقام وتحريك مواقعها وليس إلغاؤها بالمرة.. وعموما من سيقرر أن يفعل هذا دون سبب واضح فسيُلغي جزءًا من تاريخه وهويته.. وفي الأخير يكون الطرف الآخر هو الرابح الأكبر رغم دهشته أو صدمته أو حزنه المؤقت أو المرحلي على حسن الظن أو العشرة، أو محاولة حفاظه على روابط الدم والرحم.. لكنه بالأخير سيتمكن من أن يُعيد صياغة نفسه بطريقة مختلفة وصحيحة رغم كل شيء، وحتمًا سيجد أن هذا الفراق ربما كان خيرًا له، حين يقرر أن يواصل حياته بالطريقة التي تسعده، ويستثمر طاقاته وإمكانياته ويبدع ويبتكر ويخدم الذين يؤمنون به ومن هم بأمس الحاجة له..

وقد يفكر كثيرًا أنه فعلًا كان يستحق الأفضل من هذا الاستنزاف الذي لا مبرر له وأن ما مر به رغم مرارته، فهو تجربة نضج أضافت لرصيده الكثير، فالحياة كائنة رغم أنف الخيبات.


error: المحتوي محمي