أصواتٌ مختلفة، مشوهة، يبدو كأنها تريدُ أن تُهينهم وتضطهدهم، ضجيج، ضحكات مدوية، يعقبها خروج مفاجئ، يستمر لأيام وأحيانًا لشهورٍ طويلة.. هذا حال أصحاب الاضطرابات النفسية الذين تطالعنا الصحافة بين الفينة والأخرى بأخبار اختفائهم، ولكن السؤال؛ أين يختفون؟ ولماذا يختفون؟
الاستشاري في الطب النفسي الدكتور عبد الفتاح السعود يقول لـ«القطيف اليوم»: “الاضطرابات النفسية متعددة، وغالبًا ما يكون المصاب بها محتفظًا بقدراته المعرفية في بدايات الحالة، ولكن مع استمرار الحالة، وتدهورها كما في حالات “الفصام” تتأثر القدرة المعرفية مع الوقت، ويصبح غير قادر على تذكر الأماكن، والعناوين، وربما ينجم عن ذلك ضياعه، وعدم مقدرته على العودة للمنزل إلا بمساعدة الآخرين”.
عزلة وضياع
ويبين “السعود” أن الأعراض السلبية تلعب في “حالة الفصام” دورًا هامًا في محاولتهم الابتعاد عن الآخرين، وانعزالهم، وهيامهم في الشوارع، وبالتالي تعرضهم المتكرر للضياع، وفي بعض الحالات تلعب الأعراض الموجبة كالضلالات المرضية أو الهلاوس دورًا في هرب المرضى، وابتعادهم عن أسرهم أو هروبهم بسبب أعراضهم التي يعانون منها، وبالتالي اختفاؤهم عن أسرهم لفترات طويلة.
تقييم طارئ
وأوضح أن المريض الذي يغيب عن أسرته يحتاج لفترات طويلة لتقييم نفسي طارئ، كما ينبغي عرضه سريعًا على الفريق العلاجي عن طريق قسم الطوارئ، وكذلك الحرص على انتظامه مجددًا على العلاجات النفسيّة.
وأكد أن الحالات النفسية قابلة للتغير من وقتٍ لآخر، وأن المريض تعتريه حالات قد تؤثر على قواه العقلية وحكمه على الأمور، وبالتالي عدم مقدرته على التصرف السليم في كثيرٍ من المواقف.
رعاية مختلفة
وعن سبب اختفاء الرجال دون النساء، يُجيب الدكتور عبد الفتاح: “ربما هذا يعكس دور الأسرة في رعاية المريض النفسي؛ فالمعلوم أن رعاية المريضة النفسية والحفاظ عليها تكون أكبر بكثير من رعاية المريض النفسي، وبالتالي يكون الأخير معرضًا لبعض الحوادث أكثر”.
“الاختفاء”.. مشكلة
المدير التنفيذي لمجموعة أصدقاء تعزيز الصحة النفسية بالقطيف، المختص النفسي فيصل العجيـان، يذكر أن هناك أسبابًا كثيرة لاختفاء أصحاب الاضطرابات النفسية ومنها الاكتئاب، والاغتراب النفسي، لافتًا إلى أن الاختفاء بحدِّ ذاته مُشكلةٍ.
الحاجة لمأوى
ويرى “العجيـان” أن الكثير من أصحاب الاضطرابات يحتاجون إلى إيواء، لأن مشكلتهم الأساسية مع المنزل الذي يكرهون العيش فِيه، ويكونوا مشردين، وجزء من هؤلاء فقراء وجزء منهم أيضًا لم يلقَ أي عناية واهتمام من قبل أسرته كونهم غير مؤهلين للتعامل مع هذه الحالة.
وأكد أن هناك عددًا كبيرًا من الأماكن في المملكة وفرت لهؤلاء المرضى مأوى، وهو مشروع أهلي يضم عددًا من المختصين المؤهلين لمباشرة هذه الحالات، ليس فقرًا، ولكن الحالة النفسية تقودهم للنوم في سيارة مهجورة أحيانًا، أو في مقبرة أو مزرعة ما أو في منزل مهجور.
ولفت إلى أن الاكتئاب كذلك يدفع إلى الهجرة والاختفاء، وفي حالات شديدة يدفع للانتحار، موضحًا أن بعض أصحاب الاضطرابات يكون اختفاؤهم مفاجئًا للأهل، إلا إذا كان هناك سبب ما كتعرضه لاكتئاب عارض بسبب أزمة نفسيّة، أو خسارة مادية، أو صدمة لوفاة عَزِيز.
وأضاف: “إذا كان الشخص يعاني من اكتئاب السمة -أي أن الشخص يولد به- تكون تصرفاته واضحة منذ الصغر، فتصرفاته الماضية لا تدعونا أن نستغرب تصرفاته الحديثة”.
دور الأدوية
وعن دور الأدوية في تخفيف حدة المرض، يوضح “العجيـان”: “من المفترض أن تكون الأدوية مساعدة للمريض في تخطي المشكلة وتهدئة المريض؛ فبعض الحالات تنفع معها الأدوية كثيرًا، وفي بعض الحالات تناول الأدوية بشكلٍ مستمر يُعدُّ ضرورة، وقد تأتي بنتائج إيجابيّة، وتوقف تدهور الحالة النفسيّة”، لافتًا إلى أن الأدوية في بعض الأحيان يكون لها آثار سلبية “جانبية”، وأحيانًا يؤدي سوء الاستخدام، وعدم اتباع تعليمات الطبيب، أو قطع الدواء فجأة، لحدوث انتكاسة قوية جدًا، وأكثر ضررًا من المتوقع.
حلول
ولفت إلى أن كثيرًا من الأهالي يلجأون إلى حلولٍ شعبية بالذهاب للمشعوذين وغيرهم لعلاج مريضهم، وهذا التأخر في الوصول للطبيب النفسي أو المختص، وعدم اقتناعهـم بالحلول الطبية يُعطي نتائج عكسية؛ فبعض الحالات تنجح معها بعض الحلول، وبعضها تتطور وتتدهور بسبب جهل الأهل، وأحيانًا كثيرة يعود الشخص لطبيعته أو شبهها.
استنساخ تجربة
ودعا المختص النفسي إلى استنساخ تجربة “بيوت أجواد” لإيواء هؤلاء المرضى والمشردين في المنطقة، فهذه البيوت مؤهلة لاستقبالهم ويشرف عليها مختصون في كل من الرياض والمنطقة الغربية، كما دعا أهالي المرضى والمجتمع إلى التعاون معًا لتفهم الحالات النفسية بمساعدتهم على تخطي مشاكلهم بتقبلـهم، وعدم السخرية منهم.
تقبل المجتمع
وأكد “العجيـان” أن عدم تقبل المجتمع لأصحاب الاضطرابات النفسية يدفعهم لنتائج سلبية كالاختفاء أو الانطواء وأخيرًا الانتحار، كما أن بعض الحالات يحتاج إلى برامج توعوية في كيفية التعامل مع الآخرين وتدريبهم على تنميتها، كما يحتاج الأهالي كذلك لهذه البرامج التي تؤهلهم بشكلٍ جيّد للتعامل مع أبنائهم المرضى.
مرض أم اضطراب
وعن إذا كان هناك فرق بين مصطلح “اضطراب نفسي” أو “مرض نَفْسِي”، يوضح “العجيان” ذلك بالقول: “التفريق بينهما كان سابقًا، أما الأدلة الحديثة فهي تحاول تجنب ذكر “مرض” لتخفيف وقعها اللفظي على المريض وأهله”، لافتًا إلى أن بعض المراجع تعتبر أن الأمراض الذهانية التي تؤثر على العقل أو أن يكون كلام الشخص يشير إلى وجود خلل في التفكير أو الذهان هو “مرض”، على عكس “الاضطراب” الذي يعبر عنه بالاكتئاب أو القلق أو الوسواس، والهلع، التي هي في الأساس مشاكل نفسيّة أكثر منها عقلية.
ويذكر أن بعض مدارس التحليل النفسي لا تزال تصّر على لفظ “مريض”، وتعدُّ الاعتراف بالمرض الخطوة الأولى قبل العلاج “بداية العلاج”.