منذ نعومة أظافره، تعلق بالعشب، بالنخلة الفرعاء أصولها، بالخضرة، وتراب الأرض، يتنفس عبق ألوانها الزاهيات، لحنًا، تغريد العصافير، زقزقات الحمام.
تعلم من والده -رحمه الله-، فنون الزراعة؛ ليكون فلاحًا كادحًا، يأخذه منذ الصباح الباكر، ليساعده، سعيًا وراء الخبرة، والتعلم من خلال الخبرة.
قال والده أثناء اصطحابه ذات مرة: “يا بني، إن الأرض والزراعة، جزء من ممارسة حياة الإنسان، التي يجب معرفتها وتبنيها والمحافظة عليها، ونقلها عبر الأجيال”.
الفلاح الكادح والأرض
علي عبدالجبار من مواليد القطيف عام 1382هـ، متزوج ولديه عدة أولاد ذكور وإناث، متخرج من الثانوية العامة بالقسم العلمي، إضافة إلى حصوله على شهادات أخرى مكملة، كدورات تدريبية عديدة، منها: شهادة المعهد المهني، وشهادات في الإدارة، وفي الحاسب الآلي، وشهادات في اللغة الإنجليزية، ليتقاعد، متفرغًا للزراعة.
جاءت بدايته في دخول مجال الزراعة، منذ نعومة أظافره، يعيشها طيلة حياته الدراسية والعملية في مزارع النخيل، ترعرع بين أحضان الطبيعة الخلابة من أشجار وخضرة ومياه، عايش نسيم الأجواء وروائح الأزهار وتغاريد الطيور، وحلاوة الأجواء.
العبد الجبار ارتشف من مجال الزراعة منذ الصغر، حيث كان والده فلاحًا كادحًا، جادًا ومثابرًا، تعلم منه الكثير، وتعلم الصبر والقناعة والعيش المتواضع البسيط، كان القدوة والمثال الأول، ملازمًا ومتعلقًا به، مساعدًا له في الأعمال الزراعية، وما يتبعها.
كان والده – رحمه الله -، كثيرًا ما يحدّثه ويحثه، ويحببه بالأرض، ينصحه ويشجعه على الزراعة، كونها جزءًا من ممارسة حياة الإنسان، التي يجب معرفتها وتبنيها والمحافظة عليها ونقلها عبر الأجيال.
وعن يومه الزراعي، قال: “عادة ما أبدأ يومي باكرًا في صباحاتي، ذاهبًا إلى المزرعة، وفي طريقي أحمل معي ما قد أحتاجه ليوم العمل، كشراء الأعلاف للحلال وطعام الطيور والدواجن الموجودة في المزرعة، وجلب الوقود لمكائن الماء، وبعد أن أصل إلى المزرعة عادة ما أتناول الشاي، أو الحليب مع وجبة إفطار خفيفة، حينها، أتمتع بنسمات الصباح وترانيم الطيور وجمال النخيل والأشجار والمزروعات، ثم أقوم بتنظيف المزرعة ًوترتيبها، ثم بتنفيع الحلال؛ تقديم العلف للحيوانات، ثم أقوم بإطعام الطيور والدجاج، والحمام طعامها اليومي المعتاد، بعدها آخذ قسطًا من الراحة، لأنتقل للعمل، كتنظيف النخيل وتقليم الأشجار وجني الثمار، أو الحراثة وسقي المزروعات، وغير ذلك الكثير من الأعمال المهمة والضرورية، أو الأعمال المستجدة”.
مهنة الأجداد للأجيال
يبين العبد الجبار أن اهتمامه بالزراعة يأتي من فرط الحب والانتماء الوثيق لهذه الأرض الطيبة، الغنية بخيراتها وجمالها، وتعلقه العميق بها، تعلقه بهويته الوطنية، وبحب الأرض والوطن، وكذلك العشق لهذه الحياة الطيبة، التي ورثها عن الأجداد والآباء.
وفي خلجاته، سألناه ما تبثه الأرض ونخيلاتها، وعرق جبينه، حين يتناثر، والإحساس، الذي يتملكه، أجاب: “إن في النخيل، الأشجار، التي تتميز بها هذه المنطقة المعطاءة، لتعد أيقونة نادرة، يملؤها الفن والجمال والإبداع، لمساتها شفافة ومشاعرها جياشة، تشرح الصدر، تفتح الآفاق، وتزيل الهم، وتحفّز الذاكرة، وتبعث على النشاط والحيوية والهمة، وتلهم الفكر وتجدد الفهم، إنه إحساس قوي، مرهف وشعور رومانسي مليء بالعشق والوفاء، لهذه الأرض الخضراء المترامية الأطراف”.
وذكر أن امتهان حرفة الزراعة، كونها حرفة محببة للجميع دون استثناء؛ يقوم بها ويمارسها البعض، حبًا لهذه المهنة، فقد عاد الاهتمام بها مجددًا من الجيل الصاعد، لافتًا إلى أن التشجيع والتحفيز، لهذه المهنة المحببة، تلاقيه من الأنساب والأقرباء، والأهل والأولاد، ومحبي هذه الأرض الطيبة والواعدة.
وأشار إلى أن ما تنتجه مزرعته، يكمن في بعض المنتجات المحلية والبسيطة – حسب الموسم -، والتي يستغلها للاستهلاك المحلي، والتوزيع بين أفراد العائلة والأصدقاء والأقارب.
ولا تسقط ورقة التوت
وبيّن أن الفوارق بين المزارعين قديمًا وحديثًا واضحة، إذ لا يمكن أن يُغفل عن باكورة التقدم الزمني، والتطور العلمي، والحداثة، وقال: “إن المزارع قديمًا، يسعى ويكافح بأدواته اليدوية المحلية والبسيطة، المحدودة، في حين مزارع اليوم، متاح له الأدوات الزراعية الحديثة والمواصلات المتوفرة والطرق الزراعية المتقدمة، المدروسة بتقنياتها وأساليبها، وإبداعاتها في كافة المجالات التي لا مجال لذكرها في هذه العجالة”.
وأوضح أن عامل السن له خصوصيته المهمة والمؤثرة في العمل كمزارع، مؤكدًا أن كبار السن هم من يعملون بصبر وثبات، وتأنٍ وحرص لما يحملونه في ذواتهم من خبرة واسعة وراسخة، وحب كبير وعميق، لتراب الأرض الطيبة والمباركة.
وقال: “في ذات الوقت، نشاهد أيضًا، أن جيل الشباب اليوم قد بدءوا العودة إلى الزراعة، وهناك شواهد عديدة، تعزز هذا المعنى، والمنحى في الواقع الميداني”، مشددًا على تحلي المزارع بصفات عديدة، من أهمها: التحلي بالصبر والتأني والثبات، وأن يحذوه الأمل في كل شيء، وأن يحمل رسالة حب الآخرين، ويترك الأنانية، وأن يبذل ما بوسعه من الجهد والنشاط في خدمة الأرض، وأن يكافح من أجل الإخلاص والبذل والعطاء، لهذه الأرض الطيبة، المعطاءة، ناصحًا المزارع بأن يزرع في نفسه الحب والوفاء والإخلاص لهذه الأرض، متسلحًا بالجد والاجتهاد، ويزرع من أجل أن يحصد منه الآخرون، كما حصد وأكل مما زرعه السابقون.
فرشاة في يديها قطعة تراثية
وحين، تعشق أرضًا حلوبًا، فإنها لا تمنحك فقط الثمرات اليانعة، والأجواء الربيعية، الحُبلى بالسعادة والاطمئنان، لقد منحته الفسحة زارعًا بين جنباتها، ومواهبه التي يتمتع بها، كشغفه بجمع التراثيات، فكلما أدير الطرف، تجد بين أروقتها تحفة تراثية، معلقة هنا، أو متوسدة الأرض هناك، متمسكًا بجذور الحياة البسيطة – الترابية -، أمنيته أن تسكن يديه، تراثيات، تحاكي حقبًا زمنية مختلفة.
ويرى أن التراث يأتي امتدادًا لحضارة الإنسان عبر التاريخ، يذكره بالماضي ويرسخه في الحاضر، ويحفزه للمستقبل، حيث إن كل عصر يحدث فيه حداثة وتقدم وتطور عبر الزمن. وحيث إن الإنسان غالبًا ما يحن لتراثه وأصله، من هنا كان حبه وشوقه مما دفعه للمحافظة على تراث أجداده وآبائه، الذي عايش مرحلة منه ليست بالقصيرة، ليجسّد هذه الحقبة المهمة من الزمن على جمع التراثيات، التي تعود إلى فترة زمنية، تصل إلى ثمانين عامًا، وتكوين منه لوحة تراثية، ليتعرف عليها هذا الجيل الحديث، ويتعلم منها أسلوب العيش البسيط والحياة المتواضعة المفعمة بالحنان والتكاتف والتسامح والتعاون، والألفة والمحبة.
وأجاب، حين سئل عن طموحه التراثي: “أطمح مستقبلاً أن أطور من تجسيد هذه الموجودات التراثية البسيطة، المتواضعة، لأدخل عليها بعض المواد المستعملة في حقب زمنية سابقة، آملاً أن يوفق في ذلك مستقبلاً”.
وفي الأرض، بكل تفاصيلها، وتواجده الدائم منذ صغره في خضم الجمال الأخاذ من الخضرة والمياه، التي تشكل لوحات فنية، غاية في الدقة والجمال والإبداع، هوى الفن التشكيلي والألوان والرسم، مشاركًا بأعماله الفنية في العديد من المعارض والمسابقات، أولها المعارض المدرسية، ثم المحلية على مستوى محافظة القطيف والدمام، ثم في الرياض، وجمهورية مصر العربية.
بضع كلمات
وذكر أن الطبيعة، هي الصندوق المحفوظ، الذي تملأه الكثير من الهدايا الرائعة من الجمال والفن والإبداع والأناقة، والرومانسية والشمولية، والتراث: الذاكرة والثقافة والتاريخ والحضارة، ورائحة الخبز العربي: عبق الماضي ونسيم الحاضر وشذرات المستقبل، رائحة الأجداد والآباء والناس الأجاويد.
ودعا أخوانه وزملاءه المزارعين الأعزاء إلى العمل بجد وجهد ومثابرة ونشاط، وصبر وثبات، وتجديد ومواكبة التطورات واتباع التقنيات الحديثة والمستحدثة والإكثار من زراعة فسائل النخيل والأشجار المثمرة والمعمرة، ليستفيد منها ويحصد منافعها الأجيال القادمة، متمنيًا للجميع التوفيق والصحة والعافية ودوام السلامة.