في أحدِ سنواتِ العملِ الباكرة في حياتي مع شركةِ أرامكو السعودية طلب مني المشرف على عملي أن أعطيهِ تقييمًا لأدائي الذي يتوقف عليه ما استحققتُ خلالَ السنة المنصرمة من زيادةٍ في الراتب الشهري. كانت خيارات الأداء تتدرج من اللامقبولْ إلى التقدير المتميز. فكرت قليلاً فيما يجب أن أعطيهِ نفسي من رقمٍ وفي حالةٍ من الغرور اخترتُ أفضلَ أداءٍ في القائمة. لم يكن واجبًا على المشرف أن يأخذَ بما أعطيته لنفسي من رقم، ولكنه سألني: لم أعطيتَ نفسك أعلى مرتبةٍ من الأداء؟ أجبته إجابةً لم تقنع أحدًا لو تفحص فيها وعرفت صَغَار أنانيتي: لو كنتُ أعلم عيبًا في نفسي لسارعتُ إلى إصلاحه، وهذا ما رأيت نفسي مستحقاً!
حالةُ الغرور والعجب هي الضواري التي تنهش جمال أدائنا وتوقفه عن التقدم، حين نعتبر أننا وصلنا مرحلةَ الكمالِ الذي يجب أن نتوقف عنده عن بذل أي جهدٍ إضافي. هي حالاتٌ إن أصابت العالِمَ انقلب جاهلًا، وإن أصابت العابدَ أصبح كافرًا، وإن أصابت التاجرَ صار فقيرًا، وإن أصابت الراسمَ خدشت الجمالَ والإبداع في رسمه وفنه. ويمكنها أن تصيبَ المجتمعات فتتوقف عن النمو وتصيب الحضارات وتسقطها من أسها.
يجب علينا أن نعتبرَ أعمالنا وأفكارنا مشاريعَ تحتَ التطويرِ وفي قيد الإنشاء، تستدعي العامل فينا كل يوم والمسمارَ والمطرقةَ والفأس والمعوَل، ورشة عملٍ يدوم فيها التفكير والإبداع حتى آخرَ لحظةٍ من حياتنا ولن نبلغَ الكمالَ أو نقرب إلى حقيقته، وفي هذا الجهد الجاد والمستمر لعل وعسى في بعض الأحيانِ يحظى نتاجنا بأفضليةِ المقارنةِ والمقايسة مع المنتجاتِ الأخرى. تخدعنا عقولنا الصغيرة وتحجب أنفسنا عنا الجانبَ الناقصَ حيث لا ترينا سوى الجانبَ الذي يعجبنا في أفعالنا وأقوالنا وتغلق علينا مجالَ رؤية النقص. ولو سألنا اللهَ والناسَ لقالوا لنا: بينكم وبين الكمالِ مسيرةُ فراسخ! وإنَّ مشاعركم الداخلية مغايرةٌ لما يظهر من حالكم.
عندما نثق بالله وتفيض الثقةُ علينا فخرًا وعزةً وثقةً بأنفسنا، لابد أن يكونَ بين العزةِ حاجزُ تناضح يمنع تسربَ العزةِ والثقةِ بالنفس إلى محاجرِ الاغترارِ والسذاجة والاعتقادِ الخاطئ بالكمال. كم رأينا منتجاتٍ مادية وروحية ادعت الكمالَ وكذّبها الواقع، وعجزت عن الارتقاء والتقدم ثم اختفت ولم تستطع إيجادَ السبل لتحيا من جديد. يجب أن تعلمنا أنفسنا أن الغرورَ لا يولد العَظَمة والكمال، وتعلمنا أننا نموتُ حين نظن أننا وصلنا قمةَ الأداءِ والتمايز وليس لنا إلا الإنحدارَ عنها في المسافات الزمنية، وفي كل فاصلةٍ مكانيةٍ أو زمانية أن تظل الشكوكُ تساورنا في جودةِ ما نعمل.