مكاشفة

جلاء الحقيقة والصورة الناصعة لأي خطوة أو موقف أو قرار نتخذه له انعكاسه الجميل على النفس مهما كانت النتائجة المترتبة عليه، وذلك أن القناعة الفكرية بفعل كل ما يمكن القيام به بعد دراسة متأنية تلقي بظلال الراحة النفسية عليه لخلوه من أي خطأ أو تقصير متعمد، وحتى إن وقع الاشتباه أو الزلل فإنه يتحمل مسؤولية تصحيح المسار ومعالجة مواطن الخلل، وهذا الومض الإيجابي الذي يكسب الفرد قوة وشجاعة يعتمد بالدرجة الأولى على ما يمتلكه من ضمير حي تشكل نضارته وإشرافه على جميع تصرفاته مرجعية لا يحيد عنها إلى الأهواء والمصالح الضيقة، وذلك أن انكشاف الحقيقة وما يصحبها من عمل جاد ومتقن ليست بالدرب السهل، إذ أن مكاشفة النفس بأوجه التقصير ومكامن الأخطاء يحتاج أولًا للاعتراف بوجودها دون مؤاربة، إذ لا يمكنه العمل على التخلص من العيوب والقبائح والأخطاء والانخراط في برنامج ممنهج للخلو منها إلا بعد التعرف عليها وعلى آثارها الوخيمة، ولذا يلجأ البعض ممن يتهرب من المسؤولية إلى مسار التحايل وإيجاد التبريرات الوهمية لما يصدر منه، تجنبًا للاعتراف به كخطأ ظنًا منه أن هذه المناورات تحفظ هيبته ومكانته الاجتماعية، وهذا المسار المتعرج يوغل به في ارتكاب الأخطاء وتسلسها حتى يعريه من كل خير تمامًا.

الدوامات الفكرية وخلط الأوراق بحيث تمتزج الحقائق بالموهومات والخيالات الزائفة يعدها البعض أسهل من عقد المواجهات والمكاشفات مع نفسه، وهذا الأسلوب من تخدير قواه الفكرية وضميره سيفقده قوة لا يستهان بها في فضاء تكامل النفس؛ ألا وهي تأنيب الضمير وتحذيره لصاحبه من الانخراط في الخطى ذات النتائج الضررية، وزمام الأمر بيد الإنسان ما تمسك وإنقاد عقله الحر الرشيد، و متى ما تداخلت وتمازجت الأهواء والشهوات وغيّبت وعيه فستقوده نحو أخطاء متكررة لا تتوقف، ويفقد الإحساس بانحداره الفكري والسلوكي وسجله المتأخر في سير الرقي والتألق، فالضمير الحي هو من أغلى ما يمتلكه الفرد من قدرات تحلق به نحو النجاح وتنتشله من وحل اختلال الاتزان في تصرفاته، فتلك النفس الجامحة إن أسقطت سلطة ومركزية الضمير الحي فستتلبس بالنزوات دون رادع يوقفها عند حدها، وتفقد حينها السيطرة التي تحتفظ للإنسان بجماليته الخلقية والإبداعية.

فالصورة الجميلة التي أكرم الباري (عز وجل) بها الإنسان هي الوعي الفكري والاستقامة السلوكية، وكل اختراق لمنظومة الأخلاق يلحق به خدشًا، فيتلون بالصفات القبيحة ويصطبغ بالرذائل كالخداع والحقد والكذب وغيرها؛ لنرى كائنًا ممسوخًا لا يمت بصلة أبدًا للمخلوق المكرم بعد أن يبقى تحت تأثير الأنا والشهوات.

ولا يمكننا حصر الأضرار الفادحة والكثيرة التي يمكن أن تحدث إن أفلت المرء من حاكمية ضميره وخنع لأغلال النزوات، إذ يكون أشبه بأي آلة تفقد برمجتها المشغلة لها وتبدأ في إصدار الأصوات والشرر الكهربائي حتى تنطفيء تمامًا، فالضمير الحي يكبح جماح النفس الملتهبة بالشهوات ويضعها على سكة الوعي والنظر المترقب للعواقب والآثار، أفرأيت إنسانًا يتصور الضرر الأخروي ويقدم بعدها على الذنب والمعصية، وإنما سيكون ذلك رادعًا وزاجرًا له.

وفي العملية التربوية للناشئة ينبغي إعلاء قيمة الضمير والضبط الذاتي عند الطفل بدلًا من تفعيل الرقابة والتلصص على تصرفاته، والاستعاضة بمكاشفة النفس ومساعدته على تقييم تصرفاته ووضعها في لوحة سلوكية تصنفها بين السلبية والإيجابية، مما يزرع في نفسه مقبوحية الكذب والعدوان وبقية الرذائل والسيئات، وتخلق عنده قوة ممانعة من مقاربتها لما استقر وترسخ في ذهنه من آثارها السيئة.


error: المحتوي محمي