نورانية القرآن الكريم

قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ … }{إبراهيم الآية ١}.

أي صورة بلاغية موجزة تعبر عن الأهداف المرجو تحقيقها من وضع كتاب الله تعالى بين أفهام وسلوكيات المؤمنين، الغاية هي إسباغ النورانية على نفوسهم لتشرق بقيم ومضامين القرآن الداعية إلى الكمال، وتلك الشرنقات المحيطة بديجورها الحاجب عن الوصول إلى الحقيقة ونزاهة النفس من دنس القبائح والمعايب، فنورانية القرآن تعبير عن إرشاداته وتوجيهاته الراسخة في ذهن المتدبرين والمستصبحين بهديه، فينعكس بحلل مشرقة على بصائرهم وطريقة تفكيرهم والمناهج والسبل التي يسلكونها، ففي عالم يعج بالأفكار الفاسدة والسليمة نحتاج إلى منهج نعرض عليه ما يتوارد علينا، فنمتاز نحو ما يتوافق مع تلك النورانية ونعاف ونتجنب ما يطفئ شمعة الهدى من أفئدتنا، والظواهر والسلوكيات تتباين وتبرز المستحدثات منها، فإلى أين المفزع في التقييم والبحث وطرق المعالجة الصائبة؟

النفس الإنسانية جامحة بسبب تلك العوامل الداعية إلى الضلال الفكري و الانحراف الأخلاقي، فالشهوات الحافة بها والأهواء الداعية إلى اقتحام ما يتوافق مع رغباتها وإن كانت نتائجه الخيبة والخسران، بخلاف تلك التراكمات الفكرية التي لا تستند إلى دليل سوى الوهم وزيغ العقول، ولا مناجاة من ذلك إلا باتباع منهج تربوي يحليها بالفهم والرشد والحصانة من الانحدار إلى مهاوي وادي الرذائل والمعايب السحيق، فلا نجد عروة وثقى وكهف حصين نركن إليه ككتاب الله تعالى، يجلي ظلمة الشبهات والانحرافات.

كتاب الله تعالى بصيرة عقائدية تنير القلوب بدهماء ما يدينون به من عبادة الأصنام والأوثان، فيستثير دفائن عقولهم ويحركها نحو الدليل والبرهان الفكري، بدلًا عن جمود العقل وتيهه بسبب تقليد الآباء والقبول بالمورثات دون فحص وبحث دقيق، يخرجهم كتاب الله من ظلمة الأوهام والخرافات التي عشعشت في أذهانهم واستقرت دونما تبين لمصداقيتها وصوابيتها، بل آنست نفوسهم بظلمة الضلال والتيه عن الحقيقة والإيمان بها.

وكتاب الله تعالى بصيرة أخلاقية ترسم معالم الحياة الفاضلة وآداب العلاقات الاجتماعية الوازنة، بل جماع القيم الدينية هي الأخلاق الرفيعة والتعامل الحسن والإنصاف من النفس وحفظ حقوق الآخرين، إنها نورانية يقظة الضمير وكشف ظلمات بخس الحقوق ونهبها والاعتداء على الغير، نورانية يحكمها العقل الواعي متجنبًا الميل نحو الأهواء، تلك التربية القرآنية لا تقتصر على مفاهيم وإرشادات فكرية لا حظ لها من الواقع، بل هي حركية القيم وانعكاسها على مجمل واقعنا الحياتي وعلاقاتنا.

دروب ودواعي الضلال والانحراف تتعدد كحجر عثرة في طريق الباحث عن الحق والاستقامة السلوكية، فتنثال الأسئلة المحيرة على العقل لعلها تصيب البصيرة والخلاص، فأي المسالك أو الاحتمالات يمكنه أن يتخذ قرارًا بالإقدام عليها دون أن يندم عليها عندما تظهر من النتائج ما خيب آماله؟

القرآن الكريم منهج نوراني تشرق معارفه وإرشاداته على الفكر والقلب فيتخذ منه مرجعية ومنارًا لسبيل النجاة والخلاص، وحتى وإن أصابه ضنك الحياة وتموجاتها الصعبة فلا تزول عنه الطمأنينة وهدوء النفس، ليقينه بتدبير الله عز وجل فبيده مقاليد الأمور، فلم الأسى والحزن على ما فاته مما قدره الباري عليه والمتيقن أن هناك حكمة لا يعرفها؟!

وهذه النورانية للقرآن تنعكس على منطقه وحواره المتميز بالحكمة ولين الكلمة وهدوء الحوار، كما أنه يتخذ من العدالة والإنصاف وحفظ الحقوق من قيمة لا يفارقها ولا يحيد عنها، وتسمو نفسه بروحية وأخلاقيات القرآن الكريم في علاقاته بالآخرين وتعامله الحسن معهم، فحاكمية القرآن لا تفرز بصيرة وفهمًا في فكره فقط، بل تنطلق في مجمل حياته وتصرفاته المتسمة بالثبات واحترام الآخر وقيمة التسامح والمحبة، فالحياة الطيبة التي يطمح النهج القرآني لرسمها و تجسيدها على مستوى الفرد والمجتمع، هي نور الطمأنينة وراحة الضمير والهمم العالية وتحمل المسئولية في ميدان العمل المثابر.


error: المحتوي محمي