أنلزمكموها

الصراعات الفكرية منذ أن وجد الإنسان تباينت أساليبها وأطرها فلم يخلُ يوم من تصارع للقوى والأفكار.

والإنسان ذلك المخلوق الذي كرّمه الله على جميع المخلوقات بأن ميزه بالعقل والذي ورد في الأثر عنه “بك أثيب وبك أعاقب”.

وعلى ذلك جُعل للإنسان حرية الاختيار فأشير له: “وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ” البلد: (10) بأن علٌمه طريق الخير وطريق الشر بإلهام، فيعرف الخير ويميزه من الشر “فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا”.

ومن خلال ذلك يتضح جليًا أن الحرية هي إمكانية الفرد دون جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ القرار، وهي في الواقع طلب وضرورة حياتية، لا تستقيم حياة الفرد إلا بوجودها، كما أنها ليست كلمة يتداولها الناس في أحاديثهم، بل إنها تشغل حيزًا كبيرًا من فعل الإنسان وتفكيره، وعلى الحرية قامت الحروب على مر التاريخ.

وللحرية مجالات مختلفة ومصطلحات متباينة تبعًا للتوجه؛ فالإسلام له رؤيته كما أن الغرب له رؤيته عنها.

وقد صنفها حقوق الإنسان الصادر عام 1789م أنها: “حق الفرد أن يفعل ما لا يضر الآخرين”.

أما الإسلام فاعتبرها: “ما وهبه الله للإنسان من مكنة التصرف لاستيفاء حقه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء”.

أما الغرب فقد حددها: “الانطلاق بلا قيد والتحرر من كل ضابط والتخلص من كل رقابة ولو كانت الرقابة نابعة من ذاته هو”.

ولذا جعل الإسلام قمة الحرية هي اتباع مبادئ السماء؛ وهي التكليف والتصرف بإرادة كاملة، وهي عين تحمل المسؤولية حيث جعلت له الخيار إما أن يكون شاكرًا أو كفورًا.

فكانت الحرية القيمة العليا للإنسان بأن يمارس أعماله التي تميزه عن غيره من الكائنات لأنه العاقل وأفعاله تصدر عن إرادته هو.

والإنسان المسلم الحر هو الذي لا يكون عبدًا أو أسيرًا، واختياره للدين جاء عن قناعة واختيار: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”، والاقتناع مقترن بحرية الإنسان في الاختيار “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”.

والمتأمل هنا سيجد أن وظيفة الرسل والأنبياء والأئمة والعلماء والدعاة منحصرة في الدعوة للحق، أما الاختيار والالتزام فهو أمر منوط بالفرد.

فليس من العدل بين الفينة والأخرى أن نجد بعض الكتابات المتهافتة والتي تثير الزوبعات على العلماء والمربين بأن برامجهم وخططهم التي أعدوها لم تكن من الجدوى والدراسة بمكان، لذا فهي تحتاج إلى إعادة النظر في ذلك مبررين أن أي تهاون أو تراخٍ في المجتمع وانصياعه للمغريات عائد إلى الخلل في منظومة العلماء، وإن كان الهدف من ذلك هو كسر وإضعاف العلماء.

ولو كان ذلك كما يصوره البعض أو يدعيه فستكون إشارة إلى خلل في أصل التشريع والرسائل السماوية وهذا ما لا يرتضيه أي عاقل أو ذو حظ حصيف!

فنوح النبي قام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا ناصحًا وموجهًا: “وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ” حتى أن أحد أفراد أسرته نادى بـ “سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ”.

بل حتى نبينا صلى الله عليه وآله أخبر عنه القرآن بعد حقبة من الزمن مبلغًا وهاديًا: “أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ”، أي رجعتم القهقري.

كل ذلك لا يخوّل للإنسان أن يسيء للعلماء والمربين ويتهمهم بعدم النجاح والإخفاق مع أي انتكاسة تحصل هنا أو هناك أو فسحة من الفوضة الخلاقة، فالأمر أولًا وآخرًا موكول اختياره للفرد فهو من يحدد أن يكون إما شاكرًا أو كفورًا.

ولن يكون لزامًا لأحد في الاختيار مع أي الفريقين حتى لا يكون الإلزام بالإكراه، وهو خلافًا لمبادئ السماء التي جاءت على لسان الأنبياء: “أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ”.

 


error: المحتوي محمي