التقت راقصةٌ أديباً، كَتَبَ عشراتِ الكتبِ والروايات ذاتَ مرة، ولما رأت كيفَ كانت حالته المادية أقل كثيراً من حالتها، سألته: هل رأيتَ ماذا فعل بك الأدب؟ وكانت تقصد كيف لم يجنِ من كتاباته وشهرته ما ملكت هي من مال، فأجابها الأديب: وهل رأيتِ أنتِ كيف فعلت بك قلة الأدب؟ ومع أن الأدبَ لا يغني أحداً والرقص ربما جاءَ بالمالِ مثل الديمة على من مارسوه، ولكن في حكمةِ اللقاءِ المفترض بين الاثنين أن كليهما في فرصةٍ نادرة من التوأمةِ وعشق ما عمل ومبتهجٌ بما جاءت به النتيجة. أليس كلنا في الحياة نتمنى أن نعملَ فيما نحب وتأتينا النصائحُ من كل المختصين والمهتمين ألاَّ نعمل شيئاً لا يسعدنا مهما كانت النتائج؟
في الواقعِ لو أخذ الناسُ بهذه النصيحة التي تخالف سيرَ الحياة فلم يعمل الكثير منا، ولنمنا في بيوتنا بانتظار عملٍ يوافق رغبتنا. بينما واقع الحياة يقول: جد عملاً ثم ابرعْ فيه وسوف يأتي لك بالراحة. لا تأتي فرص العمل على مقاساتِ من ينتظرها، وإنما هي سوقٌ يشتري فيها صاحبُ العملِ استعدادَ ومعرفةَ من يرغب في العمل لديه للقيامِ به على أحسن وجه. ولذلك يتحتم على من يهم بالالتحاق بالجامعاتِ أن يختار ما يضعه في دائرةِ اهتمامِ أرباب العمل عندما يحصل على الشهادة ويبحث عن عمل. فلابد أن تكون اختيارات نوع الدراسةِ واقعية وعملية ويمكن الانعطاف منها على مجالاتٍ أخرى إن اضطر لذلك.
قبولنا بعملٍ ما لا يعني أننا بالضرورة رضينا به، ومن قال إنه يجب علينا التوقف عن البحث عما نحب؛ إذ أن السعيَ للأمثل قيمةٌ إنسانية عليا، لكن تجارب الآخرين في الحياة تعطينا قراءةً مختلفة عما نرغب فيه ونطمح إليه الآن، فلابد أن نبدأَ في الحياة من نقطةٍ ما! فكن مستعداً واعمل في أي حرفةٍ تحب وإن كان الكلامُ لا يأتي بالمال لمن نمقوهُ وصاغوهُ، وكانت الرغبة فيه أقل، في عصرنا، عصر العلم والمعرفة والتجارة والعصر الذي يتسابق أصحاب العمل في توظيف من يأتي لهم بالربح الوافر، إلا أن إجادةَ فن الكتابة والتخاطب في العملِ والحياة تعطيك فرصةً أكبر من منافسيك، لأنك إن كنتَ مهندساً أو طبيباً أو قائداً، أو حتى عاملاً ولم تستطع أن توصل أو تقنع الناس بصحةِ الفكرة التي تتبناها فلن تنجح. وأول الحاجة للغة تكمن في براعة كتابتك لسيرتك الذاتية في جُمَلٍ تقنع من يقرأها أنك جديرٌ بلقاءٍ أو امتحان تجتازه قبل أن تبدأ العمل.
أظن أن اللغةَ مدخلاً لكل العلوم، ومن أجادها، فالباقي أسهل مما نظن. مشكلتنا في فهمِ العلومِ هي فهم لغتها، وليس فهم اللغة هو فهم المفردات ولكن ماذا تعني هذه المفردات مجتمعة، وعندما نستطيع فهم القصد من المسألةِ الرياضية أو العلمية ونستطيع تركيبَ معادلةٍ نمطية، ففي الغالب سوف يمكننا إيجاد حل لها، وإن لم نستطع أن نحيل الكلماتِ إلى تراكيبٍ رياضية معروفة فلن نوجد لها حلاًّ.