انتهت أيّام الدراسة والاختبارات والليالي الطويلة التي كنت أمضيها في المذاكرة، وأصبحت الآن جاهزة للبحث عن عمل.
حقيقة ليس من السهل دائماً الحصول عمل بعد التخرج، فعند البحث عن عمل إلى جانب مئات الألوف من المتخرجين، وتعدد الخيارات تكون قلقاً على مستقبلك أكثر، فهناك من همّ أشدُّ منك ذكاءً ودهاءّ وحنكةّ.
وأنا أرتب قائمة أحلامي الشامخة وأوضب لائحة مبادئي وعاداتي وتقاليدي التي عنها لا أحيد استعدادًا للعمل الجديد، صدمتُ بمجتمع فيه ثلةٌ تمشي باعوجاج الطريق، وعلمت حينها أن النفس البشرية أعمق من أن نفهمها.
وما كتبته آنفًا لا يصفني فقط بل يصف عددًا لا بأس به ممن يتعاركون على الدوام مع المادة والمنطق.
وهنا سأقف على بعض النماذج الواقعية تدعيماً لحديثي.
فهذه سوسن تقول في بداية حديثها: “الفارغون أكثر الناس ضجيجاً”. وهذا ينطبق على حال الأشخاص الذين يحلمون دوماً بأن يكونوا مدراء ومسؤولين وأصحاب القرار، وهم وإن كانوا أصحاب كفاءةٍ مهنية إلا أنهم في حقيقة أمرهم عاجزون عن التعامل مع الموظفين والزملاء، فرئيسي رجل يتمنى الحصول على السلطة وهو ذو شخصية ركيكة وضعيفة جداً، ولا ينجز أعماله المسندة إليهِ، ودائماً ما ينعق كالغراب، ولا يكتفي بذلك فدائماً ما يصرخ قائلاً: أنا الكابتن، ورئيس الكُل، هوس السلطة أضعف عنده التعامل مع زملائه، وهذا الصنف مؤذي لزملاء العمل، ويكون شاقاً عليهم لأنكِ ستكونِ رهن مزاجيته وقراراته الطائشة.
أما آلاء فتتحدث قائلة: حبّ الذات والحقد والأنانية حرك زميلتي الموظفة منذُ توقيع العقد ضدي، وأصبحت في حالة استنفار دائم ودقت ناقوس الحرب، وكأنني سأقاسمها رزقها. وبدأت معركتها منذ اللحظة الأولى لقبولي في الوظيفة فرغم خبرتي العملية وشهاداتي العليا إلا أنها بحكم موقعها الإداري لم تحدد الراتب الفعلي الذي أستحقه، وتابعت تحركها ضدي حتى اضطررت للتخلي عن الوظيفة رغم ما تكبدته من ديون مختلفة، وليس ذلك لضعف في شخصيتي ولكن هُناك تربية وأخلاق تدفعك إلى احترام من هُم أقل منك عقلاً، فغادرت الوظيفة مرددة: حسبي الله ونعم الوكيل.
أما حسناء فلها رأي آخر، فتقول: يفقد مديري أهم الموظفين بسبب ضعف شخصيتة، فغالباً ما يعينّ الحمقى، ويقتل الإبداع داخل كل موظف، ويهمل تدريب الموظفين، وتنمية قدراتهم، ويزرع الفرقة والفتنة بين الموظفين، ولا يثق بالمواهب ولا يقدرها.
أما زينب فتقول: توظفت – ولله الحمد – ولكنني كُنت كالغريبة بين أبناء جلدتي ومنطقتي، كنت منبوذة بينهم والسبب أنني محتشمة. وتساءلت مراراً؛ هل يجب أن يتقاتل الرجال على اعوجاج خُصري؟ أم هل يجب أن ألهث وراء من هُو أعلى منصباً وأكثر مالاً لأكون ضمن الأوراق الرابحة؟ وقد عجزت تماماً عن الإجابة.
وبعد هذا الاستعراض السريع لهذه النماذج الواقعية أقول بحرقة قلب: إنه لغريب أننا أصبحنا نصعد على أكتاف بعضنا للوصول لمبتغانا ولمصالحنا الشخصية، متناسين أننا أبناء منطقة واحدة، وأننا كالجسد الواحد، ولو أدرك كلٌّ منّا أن رزقه من رب العالمين، وأنه سيأتي دون الحاجة لملء القلب بالحقد والضغينة، لصفى هنيئاً بعيشه.
وختامًا أقول: يجب علينا ألا نعير أي اهتمام لأقزام العمل الذين لا ينسجمون مع مبادئنا، وأن يكون لدينا إيمان مطلق بأن الله حكيم ومهما تبدلت الأيام ودار الزمن فإن المنتصر دائمًا من كان ملتزماً بالمبدأ الحق، حتى وإن بدا في ظاهر الأمر خلاف ذلك، فكثيرًا ما يكون الواقع الظاهري غير كاشفٍ لحقيقة من المنتصر، فبعض القضايا نتائجها مؤجلة ليوم ينتصر فيه الحق تبارك وتعالى للمظلومين من الظالمين.