بيعُ الشيطان

في كل قريةٍ أو مدينة هناك يسكن من اشترى منه الشيطانُ القيم، منزلٌ جميلٌ وحدائق خضراء، ومن باعَ واشترى مع الله ربما يسكن منزلاً صغيراً، ولكن ما لا نراه أن البيتَ الصغير في كل زاويةٍ منهُ تملأه الإبرُ التي كلما أراد ساكنهُ أن يبيعَ نفسه تحركت في داخله ووخزته لتقول له: لا تبِع شيئاً من ذاتكَ للشيطان، ويبقى الشيطان مغلوباً حتى يبيعَ ساكن البيت الصغير الإبر! في سهولِ الحياةِ الجرداء من القيمِ ليس هناك إلا إبر الضمائر التي تقاوم الجفافَ والموت حتى لا تستحيل الحياةُ كلها شوكاً وحسكاً.

لا شيء في الحياةِ يأتي بالمالِ أسرعَ من التجارةِ مع الشيطان، فليس على الإنسانِ إلا عرض نفسه للشيطان وسوف يأتي الثمنُ سريعاً. إذ أنَّ هناك خيطًا رفيعًا بين القيم وغيابها، شعرة رقيقة تفصل بين الأمانةِ والخيانة، وشعرة رفيعة تفصل التجارةَ عن الجشع، وأخرى تفصل بين الرفعة والدناءة، وهكذا دواليك، خيوطٌ رفيعةٌ لا يراها إلا البائعُ والشيطانُ والله. أما الناسُ البسطاء الآخرون فلا يرون تلك المعاملة ولا يحكمونَ سوى بالظاهر.

في كل تجارةٍ ربح، والربح الكثير قد يأتي بالخسارةِ السريعة، وهكذا تجارةُ الشيطان ففيها المخاطرةُ بالضميرِ والشرفِ والكرامة، والمال أيضاً، وتكبر الخسارةُ عندما يقول الحاسبُ يومَ القيامةِ: هاتوا دفاتركم. يحكى أن امرأةً كانت تبيع الحليبَ من جاموسةٍ على ضفافِ النهر، وكانت تخلط الحليبَ بالماءِ دون أن يعرفَ الناسُ غشها. ثم جاء سيلٌ جارفٌ أودى بحياةِ الجاموسة، فلما نظرت المرأةُ إلى الجاموسةِ قالت لابنتها: ما يأتي من الماءِ يذهب مع الماء.

التجارةُ مع الله على الضفة الأخرى تتسم بالهدوءِ وربما الربح القليل المتصل، ثم تأتي الأرباحُ المؤجلة التي كانت تتجمع في الكرامةِ والشرف، والأجر الوافر، والذكر الرفيع على صفحاتِ الأيام. ليس هناك من خيارٍ في البيعِ والشراء، سواءً تجارة القيم أو التجارة المادية غير أن نبيعَ للشيطانِ أو نبيعَ لله. البيع للشيطان يبدو سهلاً ويبرق مثل صفائحِ الذهب في الشمس، والبيع مع الله ربما يتخفي مثل الجوهرةِ التي يغشيها  الصَّدَفُ؛ فمتى ما أنزاحَ عنها الصَّدَفُ كان فيها كل المال والجمال.

يغرينا الشيطانُ في كل الأوقات أن نبيع له الإبرَ التي نحس بوخزها وتوقظنا كلما ظننا أنَّ عينَ الرقيب غابت، ويقول لنا: سوف أريحكم من هذا الألم وأعطيكم المالَ والجاه! ومتى ما ابتاع منا هذه الإبر والضمائر؛ فسوف نبيعه وسوف يشتري كل شيء بأقل منها ثمناً. لا تظن أن التجارةَ مع الشيطان هي فقط في مظاهر الدين، ولكنها جامعةٌ لكل قيمةٍ يحتويها البشر من العلم والفكر والسلوك الذي يستند إليه في كل حياته، فالشيطان تاجرٌ يشتري كل شيءٍ يباع، ولا بأس لديه بالتخلف بدلاً من العلم والرقي، ولا بأس بألا يكون في حياة البشر سلوكٌ ناظم يرفعه إلى مستوياتٍ تفضله على كثيرٍ من المخلوقات. أليس هكذا يساومنا الشيطانُ في شراءِ كل شيءٍ ذي قيمة؟


error: المحتوي محمي