بُنَىَّ: مناظرُ الطريق كثيرةٌ ومن سماتِ هذا الزمان أن يملَّ الماشي الطريقَ بسرعة، فلا يكاد يتعرف إلى منظرٍ حتى يمل منه، رغبةً في النظرِ إلى غيره، فليكن اليوم آخرَ يومٍ في أفكارِ السلالمِ والأفاعي، رجاء أن تكون قد طَرَقت فيك بابًا للفكرِ والمعرفة. ولن ينفعك كل الحكماءِ والعقلاء إذا لم تكن نفسك تتوق لشيءٍ منها.
تذكر أننا رمينا أولَ نردٍ فوقَ لوحِ اللعبة في فصلِ الشتاء، وها قد جاءَ فصلُ الربيعِ وكاد شهرُ آذار أن ينهزم، مشينا أحدَ عشرَ يومًا بين السلالمِ والثعابين، وحَملتكَ فيها كلها في بعضِ شتاتِ الفكر رجاءَ أن تكونَ عظيماً في نهايتها، إذ أنك متى ما أصبحتَ عظيمًا سوف أرتقي معك، لأنك ابني. وتذكر عندما تكون عظيمًا أن هناك إلهًا وأنت كاشفُ عظمته في هذا الكون، ومدينٌ له بكلِّ ما فيكَ من جمالٍ و رِقَّة. لن تنفعك كل سلالمِ الدنيا إذا لم تكن نفسك تطمئن إلى قوةٍ قادرةٍ على إدارةِ كل المناظر التي نراها في الطريق.
لن أجادل معك وجودَ إلهٍ لهذا الكون لأنني رأيتُ ضياعَ الجهد في إثباتِ وجودِ الموجود، وتركت لك بحث كل الشكوكِ والظنون، لكن لنعمل فكرنا في التالي وبعدها تخبرني ماذا ترى: أنا وأنتَ مشينا، وفكرنا، ثم كتبنا ونشرنا أحدَ عشرَ فصلًا من سلسلةِ هذهِ المقالات، ومع أنها خواطر بسيطة وفي مجملها تافهة، لكن هل رأيتَ أننا ومن قبيلِ الصدفةِ وجدنا أن واحدًا منها كتبَ نفسه ذاتَ يومٍ، فاستيقظتَ أنتَ ووجدتَ نسخةً في آلتكَ ووجدتُ أنا نسخةً منها أيضًا؟ أم تجد هذا ضربًا من الجنون؟ بالطبعِ لن يحدث هذا في أي احتمالٍ عقلائي! فلماذا يحدث في الكونِ العظيم؟
ثم لِماذا عدم الاعوجاج في الكون، فهل رأيت الشجرةَ التي أسقطت أوراقها في فصلِ الشتاء واكتست أوراقًا غيرها في فصلِ الربيع، أنها عكست ما فيها من طبيعةٍ بمحض الصدفة؟ فإذا كان شيء تافه لا يمكنه أن يخلق نفسه أو يتكون بمحضِ تفاعلاتٍ ذاتية أو خارجية، فلازمُ هذا الكونِ أن يكونَ مخلوقًا وخالقه أعظم منه. الأجدى والأنفع أن تبعث نفسكَ في معرفةِ عظمةِ خالق الكون وفي أسرار هذا الكون، وكيف تدفع عن نفسك ضرر الكفرِ به عندما يبعثك حيًا مرةً أخرى، وتشكره وتطيعه. لا ضير أن تفكر كيف جاءَ الكون وكيف ينتهي وكيف جئنا وكيف ننتهي طالما أن التفكير يقودكَ إلى محركٍ واحدٍ، هو الناظم لكل هذه الحركاتِ وهو “الله”.
عندما كنت صغيرًا في عمرك، كان مجرد شعوري أن والدي في المنزل يدفعني للكمال، ويجبرني على عدمِ الإخلالِ بنظام المنزل، ومتى ما شعرت أنه غير موجود، فعلت ما أريد دونَ الخوفِ من العقاب، ولهذا كان من يطرق بابنا يسأل: أين رَبُّ البيت؟ الذي يبعث فيه الكمالَ والجمالَ والسكون، وهكذا كان للكونِ رَبٌّ!