ظاهرة اختفاء الأشخاص في المجتمع تكررت كثيرًا بما يعادل حالتين إلى ٤ حالات بين صغير وكبير خلال السنة الواحدة، وهذا مؤشر غير طبيعي، وأتذكر في الماضي قبل أربعين سنة كان إذا ضاع أحد الأطفال – وكانوا الأطفال فقط هم أكثر المفقودين – يسارع أحدهم تطوعاً بالتجول به ممسكاً بيده وينادي بصوت مرتفع معرفاً بالطفل وأوصافه وعمره، ونظراً لمحدودية البلدان الجغرافية والتفاف الناس ببعضهم البعض، لا يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، وسرعان ما يعود الطفل المفقود إلى أحضان أهله سالماً.
وأما الآن فقد أصبح ضياع أو اختفاء الأشخاص جرسًا ينذر بالخطر وفرصة عودته تكاد ضئيلة بل تكون معدومة أحياناً، نظراً للمساحات الكبيرة والمسافات الشاسعة التي قد تضطر بعضهم إلى السير مسافات بعيدة بأقدام حافية أو ركوب أي سيارة والانتقال من مكان إلى آخر بشكل عشوائي، وهذا يجعل مهمة العودة إلى محل سكناه متعذرة، وتجعل مهمة العثور عليه أيضاً أكثر صعوبة رغم تحرك اللجان الأهلية التطوعية واستنفار سبل التواصل بجميع أنواعها في مهمة الاستقصاء، ومع ذلك تتأخر عملية البحث أياماً طويلة، وكلما مرّ يوم دون تحقيق أي نتيجة يتضاعف القلق ويزداد الشك في أمل العثور عليه حياً، وإذا سهّل الله الأمور وتم الاهتداء والتعرف على المفقود فيكون في بلد يبعد عن مسقط رأسه آلاف الكيلو مترات.
إن ما يميّز هذه الظاهرة هو حالة المفقود العقلية التي عادة ما تكون على غير طبيعتها، فهو إمّا فاقد للأهلية أو مضطرب نفسياً، وأضف إلى ذلك هويته الاجتماعية الأشبه بالسفينة التائهة التي تبحر في بحر بلا مرسى، فالمريض من جهة يعاني لا مبالاة أهله من جهة التي وجدت نفسها أمام مسؤولية جسيمة وحالة معقدة تجهل كيفية التعامل معها، أو ربما استسلمت للأمر الواقع فتركته للزمن يتدبر أمره ويتكفل بعلاجه، في حين أن هناك مراكز ومستشفيات خاصة تعني بعلاج مثل هذه الحالات، ومن جهة أخرى وجد المريض نفسه أمام بيئة مجتمعية لا ترحم لا تساعده على التخلص من أعبائه النفسية فيقسو عليه بالسخرية منه والنظر إليه كأراجوز، فلا يجد هذا الإنسان المريض أمام هذا الجو المرعب شيئاً يتسلى به غير الهروب من المجتمع والسير مرتجلاً من شارع إلى شارع ومن حارة إلى حارة ومن مدينة إلى مدينة، فهي وظيفته اليومية، وهذا في حد ذاته يجعل فرصة ضياعه أمرًا ممكنًا وفي أي وقت، خصوصاً أنه يعيش بين مجتمع – كما أسلفت – يفتقد الى بوصلة علمية تنظم مصير ومستقبل هذه الحالات البائسة.
الذي أتمناه أن يرتفع منسوب وعي الأهالي بصحة أولادهم النفسية وأن يتحلّوا بالصبر وألاّ يتأخروا في تحويل أي فرد مريض أو يعاني من حالة اكتئاب أو اضطراب إلى الجهات المتخصصة لوضع أيديهم على الحالة وتحديد العلاج المناسب من خلال برامج وخطط وجرعات علمية ممنهجة يكون بعدها هذا المريض فرداً قادراً على الانخراط في المجتمع، وإن لم يرغبوا فليتم تخصيص غرف خاصة داخل بيوتهم مهيأة بشكل مناسب لمثل هذه الحالات ورعايتها وعدم الزج بهم في الشارع دون مراقبة، فهم إذا لم يخونني الوصف أشبه بالقنابل الموقوتة يمكن أن تنفجر بأي لحظة إذا ما لم تجد التأهيل الصحي المناسب، فالشارع لا يمكن أن يساعدهم بل يؤزم حالتهم النفسية أكثر، وهذا ما نلمحه ونلمسه في كثير من أنحاء المنطقة عشرات من الحالات التي تتسكع وتتجول بلا هدف، تراهم بين المنازل وفي الشوارع وبمقربة من سواحل البحر، وأحياناً في دورات المياه العامة، وأحياناً أخرى في أوقات متأخرة من الليل مستلقياً على الأرصفة أو في المزارع، والنتيجة ضياع واختفاء ولا يوجد أثر للعثور عليه، ونعيش مرة أخرى هاجس وألم النهاية المريرة، فهو إما خروج بلا عودة ننتظر ساعة الفرج أو جثة متحللة ملقاة في زاوية نائية متوارية عن الأنظار.