للأسرارِ حرمٌ مقدّس

إن تناول تفاصيل موضوعٍ ما قد يجرّك لاستخدام عبارات لا تطيق أن تقرأها – أنت – بعد كتابتها ، فضلًا عن أن بعض كلماتها لا تخلو من الحدة والقسوة كضرورة يقتضيها الحال حينا آخر؛ غير أن ذلك لا يعني قسوة في الكاتب، أو تعقيدًا في التفكير، أو ضبابية في باحة القلب؛ وإنما هو حال اقتضاه الظرف والموضوع ليس إلا ، ومن ذلك موضوع الخلافات بين الناس والفتنة المترتبة عليها، ولولا الطلب لما أحببتُ الكتابة في ذلك، فضلًا عن الدخول في دهاليز مظلمة لا أحب الخوض فيها مطلقًا، فالحياة الجميلة أكبر وأقدس وأولى بالتناول والاستقصاء والبحث.

لا أحد ينكر احتمالية وقوع خلافات بين الناس عامة، مهما علوا في مكاناتهم وثقافاتهم وخصائصهم، غير أن القدر يتربّص ببعضهم الدوائر أحيانًا فيجعلهم لقمة سائغة يتشفى بها الحاقدون.

إن خروج الأسرار من حرم القلب المقدس يعني انتشارها ولو على نطاق ضيّق؛ سرعان ما يصبح فناءً واسعًا يستضيف نكهات قابلة لتغيير الحقائق جملة وتفصيلًا.

البُلهُ الفقراء وحدهم قد يسلمون من الحسد والمناظرة، وإلا فالأسوياء ذاقوا من لهب النار الكثير ومن الأقربين والأبعدين، وأما المتميزون – إجمالًا – والمبدعون والناجحون فيتلحفون النار مساءً، ويستظلون بها نهارًا، ويسبحون في غمراتها في أحلام يقظتهم.

كثير من الناس لو وضعناهم على ميزان العدالة لكانوا فضلاء وكرامًا وطاهرين؛ غير أن تميزهم ومكانتهم المجتمعية جعلت القاصي والداني ينال منهم .

يأنس المفلسون فكريًا والهامشيون مكانة والمنعدمون عطاءً بالرقص على جراحات الصفوة، ويتغنون على الألم، ويعزفون على الدماء، ويكيلون ويكيدون من الدسائس والكذب ما لم نجده في قواميس الشياطين.

الفتنة كعبتهم الأولى وقبلتهم المقدسة، تراهم يتناقلون الأحداث والخلافات بطريقة تشفٍ مقيتة، فيصبغون جدران الأحداث بأعاجيب ألسنتهم، ويسقطون رؤاهم كيف يشاؤون في تأويل الأمور، ثم يلبسون الجلاد ثوب ضحية وفق ميولهم وعواطفهم وبمعزل عن الحقيقة تمامًا.

وأسوأ من ذلك حين يكون لهم يدٌ طولى في الوقيعة بين المختلفين، يضعون الزيت على النار في قلوب الضحايا ثم يحضرون سعف النخيل سريع الاشتعال ويفرشونه بعد ترتيبه وتعدّد ألوانه وأحجامه ليحرقوا الجمل بما حمل، ثم تلتذ قلوبهم بنكهة الدماء السائلة من ثقوب القلوب الجريحة.

وعليه؛ ينبغي علينا جميعًا أن نبتعد كليًا عن اختلافات أو خلافات الآخرين، أو تداولها، أو إسقاط الآراء فيها، أو التحكيم في الأحداث؛ لأنه غالبًا تكون هناك زوايا غير مرئية في الصورة بشكل عام، وخاصة عند الأذكياء وواثقي الخطى والمتقين.

كثير من الخلافات بين الأزواج، أو الأرحام، أو الشركاء، أو الأصدقاء، أو زملاء العمل وغيرهم لا تخلو من خط رجعة معبّد يكون قريبًا أو بعيدًا وبمباركة من السماء؛ فإن حصرت َحدود الخلافات، وزواياها، وتبعاتها، وأعماقها ضمن حدودك الخاصة؛ عُدتَ للجادة وقت تشاء وبدون معوّقات أو حرج أو استحياء، وإن فتحت الحدود وفرشت قلبك معرضًا مقروءًا ومرئيًا فقد أغلقت سبل الخير وزدت حبائل القطيعة وضاعفت العقبات وأصبحت عودتك شبه مستحيلة في أغلب الأحيان.

وخلاصة القول؛ لا حياة لأحد منا دون خلافات أو تباينات تكون مؤقتة تارة، ومتوسطة الأمد تارة أخرى، وبعيدة في المرحلة الثالثة، وسرمدية في المرحلة الرابعة؛ غير أن الكثير من أسباب عجز الناس عن علاج هذه الخلافات يكون منطلقًا من توابع المشكلة ومتعلقاتها وليس من جوهرها، أصبحت ردات الأفعال والأشخاص والإسقاطات هي مدار النقاش وخرج قلب الحدث عن الدائرة، وعلة ذلك هو انكشاف المستور لمن يستحق ومن لا يستحق.

اختر قلوبًا طاهرة مؤتمنة تحب الخير للجميع، منصفة في الأحكام وقارئة جيدة للأحداث، تحمل فراسة خاصة، فضلًا عن حكمتها البالغة وموضوعيتها في التشخيص – وما أكثرهم في حياتنا المليئة بالجمال والطهارة والخير – إذا اضطررت لإقحام أحد في التحديات أو الخلافات التي تواجهها في حياتك العامة أو الخاصة، وإلا تكون قد رسمت خطى الألم المستمر في عيادة الجراح المزمنة بيديك واختيارك.


error: المحتوي محمي