ورد في سيرة الإمام الباقر (ع) كرة ذكره لله سبحانه وتعالى، فلا يقطعه شيء عن ذلك، و بخلاف تلك الأوقات التي يتفرغ فيها للعبادة فقد لازم الذكر في جميع أحواله، فإن جلس على مائدة الطعام ذكره سبحانه أو أثناء مشيه في الطريق أو في مجلسه وبعد درسه، بما يؤكد على أهمية الانقطاع لله عز وجل وتفريغ الفؤاد من مشاغل الدنيا واجتماع الهموم وتفرعها بكثرة التفكير بها، فأين نحن من دلالة هذه النفحة النورانية؟
ذكر الله تعالى ليس بمجرد لقلقة لسان و ترداد كلمات يغيب القلب عن معانيها والتأثر بأجوائها ودلالتها، ولكن ذكره تعالى استشعار الوجود الإلهي في جميع مفاصل حياته وأوقاته، فلا تغيب عنه الرقابة الإلهية واطلاع مولاه عليه في سره وعلنه، فيستقيم في منطقه وسلوكه ويخاف الله تعالى بالإقدام على ما يسخطه، وهذه المنعة واليقظة الروحية وتحفيز ضميره، يدفعه نحو تقديم وترجيح عقله الواعي على أهوائه وشهواته، إذ يراد للمؤمن السائر على النهج الباقري أن يأنس بالجمال الإلهي فيورثه ذلك طمأنينة وثقة بربه، ويستجمع قواه نحو هدف كبير لا يحيد عنه وهو رضا المعبود في كل ما يصدر منه، وهذا ما يكسبه قوة وشجاعة في مواقفه، بعيدًا عن الحسابات الخاصة المتعلقة بالمنافع الضيقة كما يصنع الانتهازيون الذين تنزوي عندهم مخافة الله تعالى.
ذكر الله تعالى له مفهوم واضح في سيرة ومنهج الإمام الباقر (ع)، والذي يدعو من خلاله إلى إعلاء قيمة الإنسان الحقيقية، فبقدر ما يستفرغ ويقتطع من وقته لذكره الله، يكون حينها واصلًا إلى مرتبة معينة من تهذيب النفس وتخليتها من شوائب الخطايا، فأي خطر داهم على الإنسان أكبر من داء الغفلة المفضي بحاله إلى الانغماس في الشهوات والتولع بحطام الدنيا الزائل، فالفراغ الروحي يعني تحول الإنسان إلى عالم الجسد المادي، فيبصر ويقيم ما حوله بزنة المال وجني الثروات، ولا قيمة حينئذ لما ينمي فكره من مجالس المعرفة و تدبر كتاب الله تعالى أو ما يهذب نفسه من وعظ دروس أخلاق، بل وبعد هذه العتمة للغفلة تتسلل إليه مختلف الأمراض الروحية كالبخل والطمع والجشع وتبلد الوجدان تجاه الضعفاء والمعوزين، ويغزوه التكبر والتعالي على الناس بعد الإعجاب بنفسه وقدراته، لا ينقذه من هذا الانجراف نحو المادية المطلقة في حياته إلا ذكر الله تعالى الذي يوقظه وينبهه، فتتحفز نفسه نحو الإحسان ومقابلة النعم بالشكر، ويعلي من قيمة التعبد والتقرب إلى الله تعالى وشحن رصيده الأخروي.
والتحصين الإيماني ينير قلبه بذكر الله تعالى ويوقظ روحه ويشعره بتحمل مسئولية تصرفاته بعيدًا عن الاستهتار واللا مبالاة، ويدفعه نحو إعطاء الحجم والقدر الحقيقي لكل ما يصنعه، فالمعصية وإن كانت لحظة ضعف واستجابة للشيطان، إلا أنها تعطي مؤشرًا لوجود خلل في بنيته الإيمانية وقصورًا في تورعه، وما لم يعالج هذا الأمر فإن تكرار المعصية مستقبلًا أمر وارد، وقد يستفحل الأمر فيتساهل في ارتكابه وينتقل إلى مخالفات أخرى بعد أن نفث الشيطان تزيينه ونخر في فؤاده فاستطاب النزوات واستوحش من الطاعة، و ذكر الله تعالى نطق بلسانه وسكون في فكره ووجدانه فيشعره بفداحة المعصية، ولو وقعت منه المخالفة أقبل إلى المناجاة والذكر فتصفو نفسه وتقبل على التوبة النصوح، فيومض فكره حينئذ بالخوف من العاقبة الأخروية جزاءً لمخالفاته، أو يبرق نور الذكر الإلهي بمستوى أعلى فيستقبح المعصية ويراها جحودًا للمنعم المتفضل عليه، ولعل انقطاعه لذكره سبحانه يوصله لمرتبة عرفانية يأنس فيها بالتنقل بين كلمات ومعاني الأدعية والمناجاة وما تطبعه من أثر روحي عليه، ويعرض صفحًا عن الانشغالات الدنيوية والطمع والافتتان بزخارف الدنيا، فضلًا عن الإقدام على ما يسخط ربه.
ونورانية الذكر تحيط المؤمن بالنباهة والفهم واستبصار الأمور، فقبل أن يقدم على فعل ينظر في عواقبه ونتائجه وما ينتظره من مصير إن خالف وعصى المولى الكريم، فانفلات زمام أموره وتصدع بنيته الإيمانية والتجرؤ على محارم الله تعالى والاستجابة السريعة لهتاف الشيطان وتزيينه لارتكاب السيئات هي نتائج مترتبة على غفلته، وهذه الآثار للمعصية المتوالية يتحصن منها بذكر الله تعالى.