ليس ثمةَ ما يمكن أن يعطي كاتب قارئه أصدق من نبضه الذي يضخه بين سطور ما يدون من معارف ويوثق من أحداث ويسجل من خواطر وملاحظات سهر ليله وأظمأ نهاره من أجلها.
وليس ثمة ما يمكن أن يورثه أثمن وأغلى من هواجسه وأمنياته وتطلعاته التي أفنى دهره وصرف عمره لإنجازها والوصول بمجتمعه ووطنه إليها.
وإذا كان هذا الوصف يصدق على الكتّاب الرساليين المؤمنين بأوطانهم ومجتمعاتهم، فإنه يصدق بجلاء وصدق على الأديب والوجيه الكاتب الرسالي المؤمن السيد حسن العوامي “رحمه الله”.
عدت إلى بعض ما كتبه في محاولة لقراءة الكاتب وليس الكتاب فرأيتني ألمس صدقاً ينبض بين حروفه، وأرى سطوعاً يشع بين كلماته، وأشعر بنزف يراق على الورق وليس مجرد أوراق صفراء تحركها كف المتصفح وتقلبها يد القارئ في ملل وتأفف.
رجعت بي الذاكرة إلى الوراء استذكر بعض جلسات جمعتني بالسيد، الغائب الحاضر، فرأيته يتجلى في حروفه كما يتجلى في حضوره.
هي ذات الابتسامة الودودة، والنظرة المتأملة الثاقبة، والهم الذي تنوء بحمله الجبال والهواجس التي تؤرق كل مؤمن غيور ووطني مخلص.
تعرفت إليه في عمر مبكر جدا، كنت في سن الصبا عندما تدخل في مشكلة زوجيه لإحدى قريباتي، كانت له كاريزما مؤثره، أسرني لطفه وتواضعه وتفاعله مع القضية في بعدها الإنساني والديني فكان متمثلا وصية جده قول أمير المؤمنين لولديه “عليهم السلام”: “كونا للمظلوم عونا وللظالم خصما”!
سألت والدي رحمه الله من يكون هذا المحامي فسمعته يتحدث عنه بإكبار وإعظام ويثني عليه في إنصاف المظلومين والانتصار لهم والدفاع عن قضايا المجتمع والتواصل مع المسؤولين.
عندما بدأنا الخطابة مع أخي الشيخ عبد الودود تشرفنا بالقراءة في حسينيتهم العامرة “حسينية العوامي” المأتم المركزي آنذاك في حاضرة القطيف “القلعة”، وكان المرحوم لا يتخلف عن حضور مناسبة من المناسبات، ولا أذكر أنني دخلت الحسينية إلا وكان هو أول المستقبلين وآخر المودعين، تلهمك كلماته، ويزيد في علمك ووعيك منطقه، يتواضع ويثني وهو الأديب والكاتب والمؤرخ والعالم ويوجه بأسلوب يغلفه حنان أبوي بعيد عن التعالي والازدراء.
عادت بي الذاكرة إلى لقاءات جمعتنا حوله فيما بعد لتدارس الشأن العام الاجتماعي والديني في مناسبات عدة.
فرأيته كما أقرأه الآن فيما كَتب وكُتب عنه احرص الجميع على الحضور والمشاركة في أي تجمع يتدارس أوضاع المجتمع مهما كانت وجهة رأيه من الموضوع، يميزه هدوئه وصمته، أخفضهم صوتا، وأخلصهم رأياً، وأعمقهم حكمة، وكأن علياً ” ع” عناه بقوله: {وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً ، فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ}.
كان على أن يسمع احرص منه أن يتكلم، ومع كل ما كان يتمتع به من حضور ثقافي وأدبي ووجاهة اجتماعية يستحق معها أن يؤتى ولا يأتي، لم يمنعه ذلك من المشاركة والحضور في أي زمان ومكان ونشاط يمكن أن يقدم منه وفيه خدمة لمجتمعه ووطنه، مهما نأى المكان وتباينت الرؤى واختلفت المشارب والأمزجة.
أذكر أحد المواقف المرتبطة بقضية من قضايا الشأن العام، اقترحتُ على بعض الأصدقاء عقد اجتماع لتدارس الموضوع واقترحنا الأسماء وكان هو في الطليعة، وبما أن موقع الاجتماع في تاروت كنت أتوقع ان يعتذر، الا انه رحب بأريحية وحضر بكل تواضع، ومع أنه وجهة نظره كانت مختلفة عن رؤيتنا وتوجهنا إلا أنه بدا أكثر حماساً ودفاعاً وتأييداً للفكرة وعملا من أجل تحقيقها!!
أذكر أن الأستاذ الشيخ عبد الرسول البصارى “رحمه الله” كان يتابع ما يجري من اجتماعات ويسألني حولها وعن الحضور والتوصيات والخطوات التي تلي اللقاء فكنت أخبره.
ذات يوم سألني: “ما رأيك في السيد “، استغربت السؤال، فقلت: “ما السائل بأعلم من المسؤول!!”.
تربط الأستاذ علاقة وثيقة بعائلة العوامي بشكل عام والسيد حسن بشكل خاص ، حيث كان خطيب الحسينية في شهري محرم ورمضان والمناسبات الأخرى لعدة سنوات.
تكلمت عن مزايا شخصية السيد وتفانيه وحرصه وحكمته، فصمت أبو أحمد قليلا وتنهد وقال كلمة فاجأتني ببساطتها وعمقها لا تزال ترن في سمعي أذكرها للتاريخ.
قال: اسمع يا ولدي: سيد حسن “مؤمن” وكفى!! السيد يحمل داخله روحا مفعمة بالإيمان والإخلاص والولاء لأهل البيت “عليهم السلام”.
هذه الكلمة أزالت الكثير من الحجب عني، في رؤيتي للأشخاص بشمل عام وليس السيد فقط، وعرفتني على حقيقة تغيب عن بال الكثيرين فيما يكتبون من مدح ورثاء وسير عن من يحتفى بهم.
بعدها كنت أرى السيد من موقع إيمانه وإخلاصه وولائه أكثر من رؤيتي له موقع وجاهته ومكانته الأدبية والثقافية.
فقد الكبار يشبه إلى حد ما إزالة جبل شامخ من مكانه، أقل ما يتركه الفراغ الكبير الذي كان يملئه، والوحشة التي يخلفها غيابه، والشموخ الذي توارى عن عيون وقلوب عارفيه ومن يلوذون به.
فرحم الله الفقيد الكبير أبا زكي وخلف علينا جميعا خلفاً صالحاً من بعده.