نحن البشر من يبني الطوبَ والحجرَ ومنه يعرف التاريخُ مكنوناتِ أذواقنا وخفايا عقولنا، حتى تصبح الطريقُ في عابريها والمدن في ساكنيها. نحن من نفيضُ على الطريقِ الجمالَ والروعةَ ونحن من نجعله بائسًا حزينًا، كما المدن التي نجعلها قطعًا متحركةً في الزمانِ وثابتةً في الرونقِ والبهاء.
في كل مدينة نزورها، ننظر مرةً إلى اليمينِ ثم مرةً لليسار ونقرأ اسمَ الطريق، ومنه نقرأ الكثيرَ من تاريخ المدينة وساكنيها وثقافتها وذوقها فيما يصطف على جانبي الطريق من الفنِّ أو اللافن، ومن الفوضى أو الانسياب. نقرأ بعضَ أسماء الشوارع كأننا نفتح كتابًا من تاريخِ العظماء ونقرأ فيه ونقول: حقًا لكم أن تفخروا بعظيمكم، وتجعلوهُ حيًا في الذاكرة لا يموت.
كل طريقٍ يتحدث إلى العابرينَ عن ثقافةِ أهلِ المدينةِ والعابرين فيما يُعرض وكيف يعرض على جانبيه، شوارعُ فيها المكتبات التي تقول للعابر: هلّا راودتني في كتاب؟ وشوارع تضحك من ثقةِ أهلها في العابرينَ لأنهم لا يحرسون بضائعهم ونظن أننا نقرأ صفحةً في المدينة الفاضلة! شوارع وطرق يجلس فيها الفنانون والعاشقون يعرضون بضاعتهم التي تنقلنا من وادي حزنٍ إلى جبلِ فرحٍ ثم تهبطنَا الوادي من جديد.
وفي كل ترحالنا في هذه الشوارع نسأل: ألا يمر الناس من هنا؟ هل هم خيالٌ لا يتركون شيئًا يشوه المناظرَ أو يعبث في جمالها؟ بلى! هي مكتظةٌ بالبشر الذين يتمتعون بها ويعتقدون أنها لهم وفيها تاريخهم وهي المدخل إلى حضارتهم، يحترمونها ويجلونهَا في احترامِ وإجلال أنفسهم وتاريخهم ومستقبلهم.
وإذا كانت الطريق في عابريها، فالمدينة في ساكنيها، فالمدينة التي نصنعها تخبر من يزورها عنا وتفضح ذوقنا في عشق الجمالِ والحضارة ومن ثم التاريخ، أم أنها مدينةُ الصدفةِ التي اجتمع فيها بشرٌ عاشوا ثم ماتوا في موتها وماتت بعدهم. مدنٌ تبعث من سكنها أحياء في متاحفها ومقابرها وكأنها ترد لهم جميل ما صنعوا فيها. نمشي وعيوننا تنتقل من معلمٍ إلى آخر مستغربين كيف ماتَ من صنع كل هذا التاريخ؟! كيف ماتَ من صنع هذا الجمال؟!
تصفح المدن في الحاضر والماضي يبعث فينا أحيانًا الدمعة وأحيانًا الفرحةَ في كيف يتناغم ساكنيها مع مساكنها، ومع شواطئها ومع منابعِ الجمالِ فيها، يكتبون عنها وتكتب عنهم، وفي كيف يكرهونها ويخنقونهَا وكأنهم يريدونَ أن يقتصون منها. المدن والشوارع هي الكرمة التي ولدنا في ظلالها ونأكل من ثمرها ونغذيها من مشاش عظامنا. وعندما أغفو في اليقظة أسأل ماذا سوف تقول عظامي عن التاريخِ الذي صنعتهُ أنا ومن معي عن الطريقِ والمدينة؟ أنا أفرح بما صنع من قبلي ولكن أشك أن يرى من يأتي بعدي شيئًا يقول عنه: هذا صنعه من عاشوا في هذه الحقبة من الزمان! هل نحنُ في زمن موتِ الذوقِ والفنِّ والسلوك الذي يبعث مدننا وشوارعنا حيةً في عيونِ من يراها!
يجب أن يرثى كل إنسان ويجب أن تكون المدن حيةً باقيةً، ولا تُرثى مدينةٌ عاش فيها إنسان!