سجين الغفلة

دخل النزيل وفي محياه كانت تنبعث قبسات من الهدوء والطمأنينة، وحين بدأ بالسلام دعوته للجلوس فشكرني، وراحت عيناه تلمح صحنًا قد مُليء بالتمر، إلى جانب دلة القهوة المرتكزة فوق الطاولة.

نهضتُ كي أقوم بواجب الضيافة، إلا أنه أبى إلا أن يقوم هو بالدور، لقد كانت الابتسامة حاضرة في محياه، ولم تفارق ملامحه قط طوال مدة المقابلة التي استمرت لمدة ستين دقيقة، ومن خلال خبرتي كنت على يقين بأن الشخص الذي يجلس قبالتي ما هو إلا ضحية أخرى حيث إن سلوكه لا يتناسب كي يكون تاجر أسلحة!

حدث ذلك في السجن المركزي بمباحث الدمام، خلال برنامج الرعاية والتأهيل للنزلاء الذين يطلق عليهم في هذه المرحلة اسم “مستفيدين”.
فقد كنت أستعد لعمل التقييم النفسي ليتسنى لنا بعد ذلك عمل خطة تأهيل للنزيل لتساعده في الاندماج بعد خروجه من السجن، وكالعادة سألت المستفيد عن مدى الراحة التي يشعر بها في الوقت الراهن والصعوبات التي يواجهها، وخلال الحديث زاد يقيني بأن نمط شخصيته وطريقة تفكيره لا ينسجمان إطلاقًا مع التجربة التي أودت به للسجن.

طلبت منه أن يسرد لي ما جرى، وعلى الفور طأطأ برأسه، وأخذ نفسًا عميقًا، وبدأت عيناه تذرف الدموع قائلا: “أعرف أنك متعجب، مظهري وسلوكي لا يوحيان بأنني مرتبط بأحداث الشغب، حتى المحقق استنكر ذلك أيضًا”.

القصة بدأت في سوق الخضار التي كانت ملجأي لأن أساعد أسرتي الفقيرة، حيث كنت أستيقظ الساعة الثانية بعد منتصف الليل وأتوجه مباشرة إلى سوق الخضرة، كان ذلك يحدث كل يوم.

وفي أحد الأيام كانت الشمس تحرق كل ما هو تحتها، إلا أني كنت أجاهد لأجل أسرتي وزوجتي وأطفالي، وفجأة وقف اثنان أمامي، وكانت لهجتهما تشير إلى أنهما من البحرين، سألاني عن أسعار الخضار، وفجأة قال لي أحدهما: “الأسعار مرتفعة جدًا والسلاح أرخص”!

ضحكت، ثم أخبرتهما بأن السلاح ليس هنا. كان ردي عفويًا جدًا، ولم أقصد به أي شيء، ولكن يبدو أنهما ظنّا أنني أشير إلى شيء.

مرّت ثلاثة أشهر على الموقف العابر، وبعدها عاد الرجلان ليسألاني عن سعر السلاح، أخبرتهما بأني لا أعرف شيئًا، إلا أحدهما أعطاني رقمه كي يتواصل معي في حال رغب بشراء بضاعة.

ثم مرّ شهرٌ أيضًا، وفي إحدى حفلات لزواج لأحد الأصدقاء سمعت قريبًا لي يتحدث عن الشغب في البحرين، وكيف أنه من واجبنا أن ندعمهم بالمال والسلاح.

وبمجرد أن سمعت الكلمة الأخيرة خفق قلبي ووجدت أن اللحظة أصبحت مناسبة لأن أستشيره عن طريقة دعمهما بالسلاح، وفجأة أخذني لأحد الأشخاص الموجودين في الحفل، وبمجرد أن عرفني على الشخص انسحب وتركني مع صديقه الذي وجدته يتكفل بكل شيء.

تم التنسيق بشكل دقيق، حيث طلب مني التواصل مع البحرينيين وأوجه لهم أسئلة معينة ليتم التأكد من صدقهم في استخدام السلاح وأنه سوف يتم استخدامه لدعم المظاهرات وليس لأجل شيء.

وبعد شهر تقريبًا أصبحت مع البحرينيين في سيارة واحدة يتوسطنا السلاح عوضًا عن الخضراوات، واعتقدت أن الصفقة قد تمت بنجاح وشعرت بالراحة لأني قمت بواجب، وكان ذلك قبل اندلاع المظاهرات في القطيف.

إلا أني فوجئت بعد أسابيع قليلة برجال المباحث يقفون في نفس المكان الذي وقف فيه البحرينيان، لكنهم يطلبون مني أن أركب معهم في السيارة، وهذه كل الحكاية”.

كان المستفيد يتحدث عن تفاصيل القصة، وكنت أشعر بغصة الألم التي كان يتجرعها مع كل كلمة وكل حرف ينطق به لسانه.

كان كل همه كيف خانه تفكيره وهو الذي حرم نفسه من المدرسة لأجل لقمة العيش وحرم نفسه أيضًا من ملذات الحياة لأجل زوجته وأطفاله، وكيف زجّ بنفسه في السجن.. لأجل ماذا؟!

لا شيء قد تغير، وإنما خسر سنين عمره والخاسر الأكبر هم أبناؤه.

يقول: “كنت في غفلة حقيقة حيث انجرفت مع الإعلام والشائعات والأصوات التي كانت تنادي من كل جانب”.

ختام تلك الجلسة استحضرت الآية التي تقول {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}، علينا جميعًا أن نحمي أنفسنا من الدخول في نطاق الغفلة حتى لا نشاهد أنفسنا بما نكره لها أن تكون.


error: المحتوي محمي