يثير المطر رائحةً عندما ينزل إلى الأرض، وفي تلكَ الرائحةِ خليطٌ من روائحِ البشر وما صنعوه بأيديهم وما في الطبيعةِ من روائح. في أشهرِ الخريفِ والشتاء تزدان الأسواق والمنازل بورودٍ تأتي من الغرب وبعد أن ينقضيَ فصلُ الربيع عندنا تموت معه تلكَ الورودُ، لكنها تأتي مرةً أخرى. هل تصدق أنه سوف يأتي يومٌ يموتُ فيه زراع الأشواك كلهم ولا يبقى إلا زراع الورد؟ ليس عليك إلا أن تنتظر!
من يقرأ تاريخَ الشعوبِ والحضارات يعرف أن تلك البلاد البيضاء المترفة، التي تأتي منها اليوم العطورُ والورود في كل الروائح والأشكال، كانت البلادَ التي لم يعشق أهلها النظافةَ أو الطيبَ في القرون الوسطى حتى كُتبت في روائحهم غير الزكية الرواياتِ والأساطير، بينما كان في بلدان العرب والمسلمين الطيب والعطور والماء أشياءَ لابد منها. ومن الطرافة أننا قضينا سنواتٍ في الدراسةِ والعملِ والصحبة مع غربيين لم يعرفوا شيئًا عن العطورِ التي تأتي من بلادهم ولم نشم منهم رائحةَ عطرٍ يومًا من الأيام. هكذا تواريخ الشعوب حيث كان الماء والنظافة مصدر المرض وكان الأوروبيون قبل بضعةِ قرونٍ لا يغتسلونَ إلا في مناسبتين، هما الاستعداد للزواج، أو في حالةِ المرض وما عداهما لا يهم:
يا بائعَ الورد قل لي هل اسميها
أم أنتَ تختار ما تهوى وتهديها؟
سوف أعطيها كل ما ملكت يدي
إن العطايا على مقدارِ مهديها
يوم كنا صغارًا عشقنا الوردَ في صوتِ دجلة، ذاك الذي غنى للورد وحامل الورد:
عمي يا بياع الورد… قلي الورد بيش قلي
بالك تدوس على الورد… وتساوي خله خله
باكر يصير احساب يبه… لله شتقله لله
والمر يا هالمخلوق ترى… لأجله جرعته جرعته
مو كل ورد سموه ورد… والريحة طيبه طيبه
يصير ورد مو خوش ورد… راسك يشيبه يشيبه
وردٍ زرعته خوش ورد… بإيدي زرعته زرعته
من دجلة والفرات يبه… ماي انا جبته انا جبته
كما أن النفس تستريح على سقوطِ خرزاتِ المطر التي تنتظم في سلكِ الهبوط لتتزينَ بها الأرض، فإن النفسَ أيضًا تستريح على منظر الورود، فعندما ترى الورد تذكر شيئين: أنه سوف يأتي يومٌ يبقى فيه كل الورد وزارعوه ويموت فيه كل الشوكِ وزارعوه، ورود تأتي ثم لا ترحل! وتذكر أنه حتى من يبيع الورد يبحث في الحياةِ وبين الناس عمن يهديه وردة!
اليوم ينتهي شهر شباط وغدًا يبدأ الربيعُ في شهرِ آذار، أنا وأنت إن لم نكن قادرينَ على زرعِ الورد أو إهدائه، فنحن نستطيع وفي إرادتنا ألا نضعَ الشوكَ في الطريق، فهلا فعلنا؟