ليس عصفًا ذهنيًا أن أكتبَ في يومٍ جميلٍ عن تعري الحياة وانكشافها دون سترٍ في روعتها، فبعيد الفجرِ رأيت ظلمةً قطعت عليَّ الطريق ولما كدت أن أصطدم بها رأيتها شاحنةَ الذي ربما كان الموت! ننام كل ليلةٍ وتحت أهدابنا تغفو الكثيرُ من الأحلامِ والآمالِ بأن في الحياةِ متسعًا لكل تلك الأمنيات وهو كذلك ودون أن نرى نصطدم بجدارِ الحقيقة! حقيقة ليس فيها ما يبعث على البهجةِ أو الغم إذ “فلربما ذُبح السمينُ وعُوفيَ المهزولُ”، وربما نجا من صالَ بالسيف وماتَ من احتمى بالخباء. دقائق توجسنَا من الحتميةِ الوحيدةِ في الحياة صورها إيليا أبو ماضي (١٨٨٩-١٩٥٧م) في قصيدته “سمعت عويل النائحات عشية”:
كانَت تُمازِحُني وَتَضحَكَُ فَاِنتَهى
دَورُ الـمِـزاحِ فَـضِحـكَهـا تَـفـكـيرُ
قالَت وَقَد سَلَخَ اِبتِسامَتَها الأَسى
صَـدَقَ الَّـذي قـالَ الحَـيـاةُ غُـرورُ
أَكَـذا نَـمـوت وَتَنـقَـضـي أَحلامُنـا
فـي لَحـظَـة وَإِلـى التُـرابِ نَصيرُ
وَتَمـوجُ ديـدانُ الثَـرى فـي أَكـبُـدٍ
كـانَـت تَمـوجُ بِـها المُـنـى وَتَمـورُ
خَيـرٌ إِذَن مِنّـا الأُلـى لَـم يـولَـدوا
ومِـنَ الأَنـامِ جَـلامِــدٌ وَصُـخــورُ
هل فعلًا نحن نموت ثم لا شيء؟ أم نبقى مثل حبوبِ الحنطةِ والشعير التي تسقط من القوافلِ على جانبي الطريق، تذروها الرياح ويومًا ما تقع في أرضٍ خصبة ويومًا ما تمطر السماء، ثم تعود الحبوبُ أشجارًا مخضرةً يانعةً ومثقلةً بالسنابل، أم نحن مثل الشجرِ الذي يقطع الزارعُ أغصانه في أواخرِ الحصاد ليفيقَ ماردًا أخضر، ويعطي ثمارًا يانعةً في موسمِ الحصاد القادم؟
مر في ذاكرتي يوم أمس أستاذٌ أعطاني درسًر عام ١٩٨٣م، قبل أن يولد الكثيرُ من صبايا وصبيات اليوم، فطبعت اسمه في لوحةِ البحث وجاءت أنه ماتَ عام ٢٠٠٩م. لا شيءَ فيما وجدتُ فكل الناس يموتون، سوى أنني سألتُ نفسي أهكذا نسقط من لوحةِ البياناتِ وكأننا لم نكن؟ كان كهلًا مفتونًا في معرفته، كتاباته ومحاضراته وشهاداته تملأ دنياه!
حيرةٌ أوجز الجوابَ عنها الإمامُ علي بن أبي طالب بأنها ليست المشكلة الوحيدة في قوله:
ولـو أنّـا إذا مـتـنا تُـركـنــا
لكانَ المَوْتُ راحَةَ كُلِّ حَيِّ
ولـكـنّـا إذا مـتـنـا بُـعـثـنـا
ونُسأل بعد ذا عن كل شي
أكاد أجزم أن تعري الحياة يستر كل الحقائق عن أكثر البشر، بعض الوجلِ والرعشة في عواصف المِحَن أو الذكريات ثم نعود نزرع ونأكل ونبني وهكذا هي الحياة!
إنّ الحياةَ قصيـدةٌ أعمارنـا
أبياتها، والموتُ فيها قافية
متّع لحاظك في النجومِ وحسنها
فلـسوف تمضي والكواكـبُ باقية
“إيليا أبو ماضي”.