كرمةُ الخطايا

يحتمي الإنسانُ في صفاته السلبية في ذم صفاتِ الحيوان التي يزعم أن الحيوان يملكها، وربما ابتدع صفاتٍ ناقصة للحيوان ليست فيه ليخفي رائحةَ الصفاتِ التي هي منه وفيه، يعير غيره من المخلوقات بما ليس فيها فصح فيه “رمتني بدائها وانسلت”.

اعتبر الجاحظُ أن أروعَ ثلاثة أشياءٍ في الدنيا هي البومةُ والكركي ومالك الحزين. وذكر أن البومةَ لا تظهر بالنهارِ قط خوفاً أن تصيبها العينُ لحسنها وجمالها، ولَمَّا قد تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان، فتظهر بالليل. والعجب الثاني الكركي، لا يطأ بقدميهِ الأرض، بل بإحداهما، فإذا وطئَ بإحداهما لا يعتمد عليها اعتماداً قوياً، ومشى بالتأني، خوفاً من أن تنخسفَ الأرضُ من تحته. والعجبُ الثالث الطائر الذي يقعد على بثوقِ الماءِ من الأنهارِ إذا انخرقتْ، الذي يُعرف بمالكِ الحزين على شبه الكركي خوفاً من الماءِ أن يفنى من الأرضِ  فيموتَ عطشاً.

لا يخفى على أبي عثمان الجاحظ وهو الحاذقُ في صنعته أن الطيورَ لم تبتكر المرايا وتنظر فيها كل صباحٍ ومساء ثم تتيه عجباً ونرجسيةً بنفسها ولم تضع المعادلاتِ والمعارف الرياضية التي تستطيع تقديرَ وزن الأرض وصلابتها ثم تخاف أن يكون حسابها خطأً وتسيخ الأرضُ من تحت أقدامها! ولم تحجب الحيواناتُ الماءَ عن غيرها من بني جنسها حتى يتهمها الإنسانُ بالخوفِ أو الأنانية أو الحزن لفناءِ الماء.

صفات وأفعال الحيوان فيها كثيرٌ من الجبرِ وقليل من الإرادة الذاتية وأفعال الإنسان فيها قليلٌ من الجبر وكثيرٌ من الاختيار، وليس للحيوانِ زاجرٌ إلا ما اقتضته ضرورةُ البقاءِ وديمومةُ النوع. على نقيضِ الإنسان الذي له عقلٌ ورسل ومدارك ومع كل هذه الأدوات تطأ أقدامه أراضي الطباعِ المحرمة كل حين! فلا تعرف الحيوانات الحقدَ أو الحسدَ أو العجب الذي يسلب الحيوانات الأخرى مزاياها دون دافعٍ من حاجتها البيولوجية والغرائزية المحضة.

ماذا لو عقلت الحيوانات والطيور وصارت تدون وتصنّف حياةَ البشر وطبائعهم فماذا سوف تكتب عنهم في الزهوِ والعجب والنرجسية والحرص والطمع؟ هل تكتب أن من أروع الأشياء في الدنيا وأطرفها هو الإنسان الذي طوّع البحرَ والبر وجميعَ المخلوقات لكنه قتله عجبه بذاته حتى ضاقت كل مساحاتِ الآخرين عنده؟ ولو صنف الحيوانُ كتباً في مآسي البشر منذ نزولهم الأرض لكانت كتباً لا عد لها ولا حصر! مآسٍ أكثرها كان يأتي مما يظن البشر أنه لهم دون غيرهم.

حقائقُ صفاتِ الحيوان تحتاج إلى برهان وحقائق صفاتِ الإنسان لا تحتاج إلى بيان، هو يفصح عنها في لسانه وفي أفعاله منذ أن كان البشر أعداداً أقل من العشرة، صفاتٌ استدعت أبانا آدم أن يذوقَ مرارة الدنيا وهي كرمةٌ لم تتدلى عناقيدها بعد ويسكر من حبها وحلاوتها أبناؤه ويتيهون عن الجنة.


error: المحتوي محمي