كانت واقفة وسط الصالة طويلة القامة حنطية البشرة يغلب على نظرتها الذهول!
تأملتها الطفلة ذات التسع سنوات، وكأنها ترى كائنًا غريبًا.
إنها أم محمود كما سمعتهم ينادونها، لم تصل سن الشيخوخة بعد، لكن نسبة للطفلة التي علمت للتو أنها الجدة!
ولأول مرة تعرف أنه توجد لأهل هذا البيت جدة!
فبدا الأمرُ غريبًا عليها!
وكانت قد أتت إلى بيت جيرانها كي توصل طبق الهريس الذي صنعته والدتها.
في ذلك الوقت:
قبل نصف قرن من الزمان كان الجيران كالأهل وخاصة مَن كانت أسوراهم مشتركة.
كان الرجال يعملون في الخارج، وكانت النساء تعمّرن البيوت وتتزوارن وتتشاركن الأحداث الاجتماعية.
هكذا بساطة
قالت أم محمود للطفلة: تعالي واقرئي لي هذه الورقة.
قالت لها:
ولكن أمي قالت لي ألا أتاخر.
قالت: ساخبرها.
فذهبت قرب السور، ونادت أمها وطلبت منها أن تسمح لابنتها أن تبقى برفقتها لبعض الوقت، وأوضحت السبب.
قالت: لا باس بذلك ثم أوصت ابنتها بألا تقصر في خدمة الخالة.
جلست الطفلة وهي تشعر بأهميتها على بساط مفروش على الأرض.
قالت لها أم محمود:
أنت فتاةٌ ماهرة لأنك تعرفي كيف تقرئين وتخطين الخط لا تنسي ذلك.
شعرت الطفلة كأنها عالمة وشعرت بالمسؤولية أيضًا، كما أرادت لها الخالة أن تعرف.
أعطتها كتيبًا صغيرًا وورقة وقلمًا.. واختارت بعض الأدعية والآيات القرانية وطلبت منها أن تكتبها.
جلست القرفصاء، وكانت هبات من الهواء الحار الصادر من المروحة الكهربائية تلفح وجهها وتجعل الأوراق تتطاير منها.
أمرتها أن تبتعد عن مسارها ففعلت ذلك وظلت تكتبهم الواحد تلو الآخر وهي منسجمة.
إلى هنا كل شيء تمام ويناسب المنطق.
فجأة سرحت ببصرها بعيدًا
وقالت ينبغي أن تكتبي أيضًا هذه الآية عدة مرات.
الطفلة:
لماذا؟ قلت لي: هذه آخر ورقة.
قالت:
يجب أن تكتبي ذلك لأنها دخلت هنا كي لا تعمل لنا مشكلة.
(كانت تحدق في لا شيء).
ألا ترينها طويلة جدًا تكاد تصل للسقف!
لم يكن هناك شيء!
ولحسن الحظ ظنت أنها تمزح أو تحلم أو أي شيء ولكن ابعدت ذلك عن تفكيرها تماماً، حتى بعد أن أخبرتها أن تلك هي (أخت إبليس)…
ثم أخبرتها:
الحمد لله لقد خرجت من الدار سريعًا بفضل ما كتبته من آيات.
دراستها الأولية البسيطة وسط بيئة لم تحظ بالتعليم فيها إلا قليل، جعلتها تؤمن بالمنطق العلمي بما يناسب عمرها
لكنها أطاعتها وأكملت الكتابة ثم عادت لمنزلها.
أم محمود:
كانت تعاني نوعًا من الاضطراب النفسي يحعلها ترى فعلًا كائنًا ما يرغب أن يؤديها.
وقد تغلبت على هذا الأمر بدرجة ما.
بواسطة الإيمان.
فالخوف عمومًا في معظم ظروف البشر يجعلهم يرغبون أن يلجأوا للقدرة اللامتناهية إلى من خلقهم وأعلم بهم من أنفسهم
ولكن للأسف!
كان الناس ذلك الوقت وهم معذورون يؤولون ذلك أحياناً بسوء الخلق حين تبدو أمارات غريبة على المصابين…
كما قد ينسبونه إلى شيء ما مما وراء الطبيعة من خرافات!
كانت أم محمود تعيش في كنف زوج يعمل تاجرًا وكانت الظروف المريحة لها وقت ذلك، ورعاية الأولاد جعل تلك الظاهرة منزوية داخل أركان نفسها.
وإن ظهرت أحيانا فُسّرت بالخرافات السائدة تلك الأيام دون أي إزعاج لها.
واستمر الوضع هكذا، حتى وقوع ذلك الحادث لزوجها، حين ذهب إلى خزانته فوجد بابها مفتوحًا وأمواله مسروقة فخرج في أثر الحرامي ولكن يبدو أن هول الصدمة والانفعال تسببا له في سكتة قلبية فمات، وتسبب لزوجته في ظهور الحالة الكامنة إذ اعتبرت موته بفعل فاعل مما أورده خيالها.
إن تجاوزنا من كان السبب الحقيقي وهو السارق.
كانت حالة أم محمود تتدهور مع مرور الوقت، وأصبحت ملازمة لبيتها تخاف الخروج منه لكن من حسن حظها أنها كانت محبوبة من الجيران، وكانوا يزورونها ويتجاوزون حالتها لكثرة دعائها وإيمانها.
مرت السنوات…
وقد تطورت الحياة، وتوفرت وسائل للراحة أكثر من ذي قبل كما انتقلت أم محمود ومعظم الجيران إلى الأحياء الجديدة…
وفي أحد الأيام من العطلة الصيفية وقد صادف أن الفتاة مرت على الحي الذي كانت تسكن فيه سابقاً حيث كان اللقاء مع أم محمود فقررت زيارتها..
وقد صارت في الجامعة وتدرس علم النفس.
سألت عنها الجيران وقد اطمأنت من خلال الحديث معهم أنها
في حالة جيدة ففرحت بذلك.
وصلت أخيرًا..
كان جو القاعة مريح للنفس، والمكيف يعطي انطباعًا مميزًا بصوته الرتيب.
سلمت عليها:
كيف حالك أم محمود؟
وعرفتها بنفسها..
رحّبت بها بشدة وسألتها عن أمها وأبيها وأخوانها وجميع أهلها
ثم قالت لها: لا تزال تلك الأوراق التي قمت بكتابتها لي معي، أنت بنت طيبة ومن أهل الجنة.
أجابتها: وأنت كذلك إن شاء الله.
ثم سألتها:
كيف حالك يا خالة أم محمود؟
ردت بلطف:
أنا بخير.. والأمور طيبة والحمد لله.. ولم تعد أخت إبليس تأتي لي أبدًا.
انظري فقط هؤلاء النسوة الطيبات معي.
نظرت حولها..
وطبعًا لم يكن هناك أحد.