.. طيِّبون وأحبُّهم

كان المكان محورَ الحديث. وكان السؤال: ما الذي تحبه في المدينة التي تعيش فيها؟ يثير السؤال سيلا من التداعيات. تأخذك التداعيات إلى أبعد من الحيز الجغرافي الذي تعيش فيه، فلا تجد اختلافا بينه وبين بقية الجهات المحيطة به. هو نموذج مصغر لمحيطه الكبير الممتد من الماء إلى الماء.

تعود بالذاكرة إلى الوراء. يوم كان المكان قرية صغيرة حالمة تعيش طفولتها بين خضرة النخل وزرقة الماء. كبُرتَ وكبُرتْ القرية معك. صارت مجموعة قرى تسمى «مدينة». تعود بالذاكرة إلى فضاءات الطفولة الأولى: الأزقة الضيقة المعتمة التي أقلَّت خطواتك الصغيرة. البحر الذي داعب مدُّه الجدران. الحارات المتربة التي نثرت على ثراها أحلامك. و«الأوليات» التي لا تفارق الذاكرة: أول منزل سكنتَه. أول يوم التحقتَ فيه بالمدرسة. أول مجلة أطفال تصفحتَها. أول كتاب قرأتَه. أول رحلة مدرسية شاركتَ فيها. أول مسرحية لعبتَ فيها دور «كومبارس». أول فيلم بالأبيض والأسود شاهدتَه حين لم يكن في القرية إلا ثلاثة تلفزيونات، ومحطة تلفزيون محلية واحدة.

كان المكان جزءا منك وكنتَ جزءا منه، فماذا عن الإنسان؛ الإنسان الذي يمنح المكان معناه؟

كل ما حولك يشير إلى أنك في بيتك. كل شيء يَشي بالألفة والدفء. تقود سيارتك فتتشابه عليك الجهات. ثم تجد نفسك بالمصادفة وسط بلدة صغيرة. تسأل أول عابر سبيل عن أقرب مخرج للجهة التي تقصدها. قبل أن يجيب عن سؤالك يدعوك قائلا: «تفضل معنا». عبارة ليست للاستهلاك اليومي. فهو يعني ما يقول، لا تعرفه ولا يعرفك، لكنه يعتبرك ضيفا على بلدته. تشكره، فيشرح لك كيف تصل إلى وجهتك.

تصادف شابا يقود سيارته. تسأله السؤال نفسه. يقول لك «اتبعني». يؤجل الذهاب إلى غايته ويأخذك إلى حيث تريد، ثم يلوح لك بيده «مع السلامة».

هذا الشاب الذي قد تترك لديك بعض تصرفاته انطباعا مختلفا، تجده في المجالس مثالا للباقة والتهذيب. تتساءل: كيف يتصرف هذا الشاب المهذب الخلوق وكأنه قد تقمص شخصيتي دكتور جيكل ومستر هايد؟ تدرك أنه إلى الجمال أقرب. تلمس ذلك حين يكرس نفسه للمشاركة في المناسبات الاجتماعية المختلفة. وحين ينخرط في الأعمال التطوعية بحماسة عالية. لعله بحاجة إلى من يوقظ في نفسه تلك الصفات الجميلة، فيتدفق عذوبةً وبذلا وعطاء وإيثارا.

تطور الحيز العمراني واتسع. لكن القرية لم تختفِ بعد. بقيت بعض أخلاقها الجميلة. يمكنك أن تلاحظ ذلك في سلوك الناس وهم يلتقون في المحافل، في الأماكن العامة، في الأسواق، في صالات السفر، في وسائل النقل العامة. وإذا وجدت مآخذَ هنا أو هناك فذلك هو الاستثناء وليس القاعدة. غير أن ذلك لا يحجب أوجه الجمال الأخرى.

قد تغادر البلدة. قد ترحل عنها، لكن ليس عليك أن تحملها معك على الطريقة التي يحمل بها الجبلي الداغستاني بلاده: حفنة من تراب وحجارة الجبل، ووعاء به ماء من بحر قزوين. «الجبل والبحر وكل ما عداهما» كما يقول رسول حمزاتوف. لست بحاجة إلى ذلك، فهذه البلدة لن تتركك. سوف تلاحقك كالظل أينما ذهبت! كل شيء مرهون بتصورك، فإما أن تلازمك بالطريقة التي ذكرتها. أو تلاحقك على طريقة الشاعر كفافيس حين يقول:

«ستشيخ في الأحياء نفسها. في البيوت ذاتها. ستصل على الدوام إلى هذه المدينة. ما من سفينٍ من أجلك وما من سبيل. وما دمت قد بددتَ حياتك في هذا الركن الصغير من العالم فستبددها أينما ذهبت»! نعم. لكن ذلك موضوع آخر أيها الشاعر الكبير!

اليوم


error: المحتوي محمي