كثيرًا ما يستغفلنا عقلنا ويبتدع أشياءَ ثم تكون! اليومَ سوف أحكي لك حكايةَ الإسكافي الذي كان يردد كلما ساءت الأيامُ أو حسنت “ما تظل هيچ”، يسيرُ ساعاتٍ كل يومٍ في شوارعِ المدينة مع أدواته البسيطة ولا ينفك يقول ذات الشيء! وسوف أحكيها لكَ في لهجته الواثقة من طلوعِ الشمس بعد كل غياب.
كان إسكافيٌّ في أحدِ شوارعِ بغداد يلمع الأحذيةَ، وكلما عطف عليه أحد الناس في تنظيفِ وتلميع حذائه بشيءٍ من الدراهم قال له: شكراً لكن “ما تظل هيچ”، كان له صديقٌ وأراد أن يعرفَ ما جرى عليه بعد مدة، وسره عندما رآه قد اشترى كشكًا صغيرًا ليعمل فيه بدلًا من التجوال، هنأهُ صاحبهُ بالتغيير فلم يكن من الإسكافي إلا قال “ما تظل هيچ”.
مرت الأيامُ سريعًا وعاد الصديقُ ليزور الإسكافي، بحث عنه ولم يره فدلوهُ عليهِ في دكانٍ كبيرٍ في ناصيةِ الشارع، فذهب إليه فرحًا وهنأه بما صارت إليه روائعُ الأيام فرد الإسكافي “ما تظل هيچ”، جاءَ الصديقُ بعد مدةٍ ولم يرى الإسكافي، ولما سأل عنه قالوا له إنه صار شيخ التجار وانتقل إلى مركزِ المدينة، عثر الرجلُ على الإسكافي الذي صار شيخَ التجارِ في حلةٍ بهية ومأوى رفيع بعدما كان صعلوكًا يدور في الشوارع يبحث عمن يرغب في تلميعِ حذاء. تبادل الرجلان التحيات وقبل أن ينصرف الرجلُ سريعاً قال له الإسكافي “ما تظل هيچ”، لم تخنه جملته الفضلى عندما زاره صديقه آخرَ مرةٍ وهو في منصبٍ كبيرٍ في الحكومة ولم ينسَ بعد جملته “ما تظل هيچ”!
ليست كلمات الإسكافي الثلاث إلا واقع القدر الذي يمشي وكأنه سائلٌ يجري دونَ أن يكون لهٌ شكلٌ مرسومٌ سوى ما رسمنا له في مشيئة الله، ومن عاش منا زمنًا يكفيه أن يقلب صفحات الأيام ليعرف كم هو صحيح قول الإسكافي. تأمل أنت ساعةً وسوف ترى أن الحياةَ طورًا في علوٍّ وطورًا في انخفاض وكأنها لعبة الأفعوانية! ربما ليس الخوف من أن نكونَ في الأعلى أو الأسفل ولكن الخوف من أن تفلت أيدينا عندما نكون في الوادي أو في القمة، لحظة السكون، وفي كلتا الحالتين تصير الأفعوانية إلى “قطار الموت” حينما نظن ألا شيء سوف يحدث.
لم يكن الإسكافي يزجر الطيرَ في الصباحِ شمالًا أو يمينًا تطير، ثم يخبر صديقه بأن الأمورَ سوف تتغير، ولكنه كان كما يسميه مدراء اليوم يضع الخططَ والأهداف والرؤية، يحنو عليها ويربيها مثل الجنين ويسير نحوها بعفويةٍ ثم يلاقيها كبرت كما رسم له القدر.
حقائق الأمور تقول إنها “ما تظل هيج” وإن الزمنَ يقوي الضعيف، ويشفي الجراح، ويعفي الكلوم، لكن متى ما انتظرناه على الطريق، وأيضًا يصطادنَا دون أن نعرف ساعةَ الصيد، فهلا حذرناهْ! طبيعة الدنيا وصفها ابن نباتة المصري في قوله:
عجبتُ من الدنيا التي جل خطبها
وحارت قلوبٌ عندها وفهومُ
فيا ليتها إذ لا تدومُ تطيب أو
فيا ليتها إذ لا تطيبُ تدومُ