قِسمة ونصيب

أخيراً….
وصلنا أرض الوطن.
استقبلها، وصَعَدْتْ معه السيارة، كأنها مركبة فضائية تنطلق لعالم غامض، وصلا المنزل.
تقدم وفتح الباب لها باحترام. نزلت وقد تورد خداها خجلاً وتأثراً..
كان الصمت يغلب على المكان إلا من صوت هبوب الرياح الخفيفة.
دخلت مترددة فقد سبقا المدعوين في الوصول.
كانت صورة والده تحتل مساحة جيدة من الجدار.. شعرت بالخجل وكأنه يرمقها.

دفعت بصرها بعيداً…
تشاغلت بتأمل المكان؛ جلسة شبه عربية.. بعض الصور هنا وهناك.. وأخيراً تناهى لسمعها صوت نسائي يسأل:
هل وصلتما؟
ارتاحت لوجود شخص آخر، إذ كانت تشعر أنه لا يوجد في الكون غيرهما..

احتضنتها بحنان خفف هذا من ارتباكها..
قالت لها بهدوء:
ما شاء الله لا يبدو عليك وكأنك آتية من سفر!
لم تعرف بما تجيب، صمتت!

كان قرارًا سريعًا حقاً موافقتها على الارتباط به بل وغريبًا نوعاً ما.
عادت بذاكرتها للوراء..
قبل أقل من أسبوع كانت وصلت مدينة أنقرة لإنهاء بعض الإجراءات اللازمة لدخول الجامعة.
بعد ثلاث سنوات متعثرة في محاولة الدراسة؛ تم قبولها هنا،
لذا كانت متحمسة ولم تلتفت إلى محاولة شقيقتها الكبرى لتقبل فكرة الزواج الذي عرض عليها وهي تتأهب للسفر إلى هنا.
ألم يمكن أن ينتظر قليلاً حتى تستمتع بهذه الأيام وتتأقلم معها؟ لم ترغب حتى أن تعرف من هو..
….
كانت بداية القصة
يوم الجمعة الماضي؛ إذ كانت في المنزل مع أختها وبنات الخالة؛ الكبرى تقاربها في السن والصغيرة ذات الثلاث سنوات
تتراكض هنا وهناك تملأ البيت حبوراً..
اما ابن خالتها حامد فقد كان يجلس مع أخيها الأكبر في المجلس الخارجي.
وقد اعتادت وجودهما هناك كما جدران منزلها.
فتحت الإيميل ففُوجئت بقبولها في جامعة أنقرة..
أعلنت فرحتها للحاضرات.. وقبل استيعاب الخبر، لبست حجابها
تحسباً لوجود ابن خالتها حامد وخرجت لتخبر أخاها.

عند الباب كان حامد واقفاً بقامته الطويلة وقوامه النحيل.
كان حامد دائماً مؤدبًر وحين كانوا يلقبونه بـ قلم الرصاص، لا يتأثر، فقط يجيب بلطف: إذن أنا مفيد، كما كان شخصًا ملتزمًا جداً مطلقاً لحيته على غرار المتمسكين بأهمية اللحية للرجل، والتي لم تكن تنجح لتضفي عليه وقاراً بل كانت تجعله يبدو أكثر انطلاقاً.
كانت تتخيله مع عروسه؛ طويلة نحيلة تلبس الحجاب حتى يوم زفافها.

نادت أخاها.
أعلمته بالأمر كي يعمل ما يلزم
وطلبت منه أن يشتري لها بعض المتطلبات الضرورية، وأن يخلي المجلس؛ كي تستقبل زميلتها التي تدرس هناك.

كان حامد يريد أن يخبرها أنه يرغب أن يقابل خالته، لكنها
عادت فوراً إلى الداخل لتكمل مهمة نشر الخبر السعيد.

وما إن خرجا رجعت للمجلس فإذا بسافله عاليه..
ما هذا؟
كم هما فوضويان..
أممم..
ربما ليس لهذه الدرجة لكن لأنها تحب النظام..
رتبته سريعاً ثم جلست على الأريكة مقابل النافذة الأنيقة ذات الإطلالة الرائعة لبعض أحواض الزهور التي تتوسطها شجرة رمان قصيرة وعلى أحد الجانبين يوجد قفص جميل للطيور .

جلست، وهي تتأمل الطائرين كأنما هما إحدى لوحات الفن العربي، كم تعشق هذا التناغم بينهما، لدرجة أنها كوّنت لنفسها نظرية أن أي زوجين بنبغي لهما أن يكون قوامهما متقاربًا..
فمثلاً: هي قصيرة نوعاً ما.. إذن؛ ينبغي على زوجها المستقبلي الالتزام بأن يميل للقصر وأطول منها قليلاً، وأيضاً لا ينبغي أن يكون متدينًا كثيراً فهي تحب الانطلاق، طبعاً ضمن حدود الشرع.

هي لا تجنح لمثل هذا الخيال كثيراً؛ فهي فتاة واقعية لكن فقط كجزء من تفكيرها عن التناسق…

صحت من تأملاتها على صوت أخيها يخبرها بموعد الطائرة وأن عليهما الذهاب ليلة الغد.
سافر معها أخوها كي يساعدها فيما تحتاج له من أمور يمتلك فيها خبرة عنها.
وحين انتهيا من ذلك، كان الوقت لا يزال عصراً.
سألها: هل تحبين أن نذهب إلى المقهى القريب من الفندق؟ سوف يعجبك.
قالت: حسناً
كان حامدًا هناك…
سألته مشاكسة: أنت هنا؟
كأنكما فردتا حذاء دوماً معاً، ثم ابتسمت متداركة: لنقل قفازين.

انحرجت من تعليقها واعتذرت.. لكنها شعرت بنوع من الراحة فقد كان ذلك جزءًا من عالمها
الذي لم تكاد تبتعد عنه.

قال لها:
لدي ما أقوله لك إن سمحت لي….
نظرت لهما متعجبة!
قال أخيها: سوف أحضر بعض الحلا ثم ذهب، وأخلى لهما المكان.
نظرت له باستنكار..
الحقيقة كانت تراه كثيراً فهو ضمن حلقة الأشخاص الذين يرتادون منزلهم..
ولكن لم يلفت انتباهها يوماً.
سألها: هلا جلستِ؟
جلست بهدوء.
وهي تستمع له مرتبكة!
ماذا يقول؟
ولماذا قلبها يخفق؟!
انتهى كلامه..
عرف جوابها..
استأذن ليذهب إلى المطار راجعاً للديار.
شعرت فجأة بالسخرية من مشاعرها هل هذا حب؟
وأي حب هذا الذي تم ببضع كلمات!
ما أن علمت رغبته في الارتباط بها وإذا بالمسافات المتباعدة تقترب.
وكأنها لم تعرفه من قبل ليس فقط وافقت مبدئيًا؛ بل وافقت أن يتم العقد ثم ترجع للدراسة لارتباطه هو الآخر بعقد عمل في جدة.
….
استفاقت من ذكرياتها حين دق جرس الباب.
فخرج حامد ليستقبل القادمين..
واجتمع أفراد العائلتين ليحتفلوا بعقد قرانهما.
بدأ عليها بعض الإرهاق أخيراً لما يدور حولها من أجل الاحتفال
قالت لها أختها معاتبة:
ألم يمكنك أن تنتظري قليلاً ذلك اليوم، وتستمعي لي.. إذن لوفرتي علينا كل هذه الفوضى.
ابتسمت لها
وقالت لنفسها وهي تشعر بالسعادة:
وداعاً للتناسق..
ومرحباً ببعض الفوضى…
وقد يكمنُ في الاختلاف بعض التكامل الجميل.


error: المحتوي محمي