انبهار

ما بين البدء والختام تكون الكتابة، وأنا أكتب عني لكن لا أكتب لي، حيث أكتب للممكن لا للافتراض، ولعل البعض في حالة استنكار بنوعية ما أكتب وحتى أنا في حالة انبهار بما أصرح وأهتف عاليًا!

فالقلم كنز من الأخلاق وللناس آراء ومذاهب كما يقولون! دعوني أقول شيئًا: ولدتُ في بيت يكاد يكون مدرسة شعرية، أكثر من كونه بيتاً تسكنه عائلة، إن بيني وبين الشاعر الكبير شقيقي المرحوم وجدي فروقات كثيرة، ومشتركات كثيرة أيضاً، ولعل من أهم الفروقات أن شقيقي وجدي ذو قامة شعرية عالية جدًا فضلًا عن ثقافته الواسعة، لكننا نشترك في الرحم والميول الأدبية.

وأيضا لو لم أكن متمردة لما كنت في حاجة إلى الكتابة، ولقد قادني التمرد إلى طر ح كتابات من نوعية جريئة، دون تضييع الوقت مع السطحيين. وبطبيعة الحال أقصد التمرد الإيجابي الذي يسعى إلى البحث والجهد والجديد وهذه سمة أساسية في تجربة حياتي، وهذا ما يبهرني فعلًا!

قرأت يومًا حكمة صينية تقول: إذا لم تجد ما تبحث عنه داخل نفسك، فأين يمكن أن تذهب للبحث عنه؟ لا أدري حقاً وقد حير هذا السؤال بعض البشر للسعي! حيث الحياة التي تبتغيها لن تجدها! نعم ظل المرء يبحث ويبحث دون التفات، فالبحث والسعي من طبيعة الوجود، لهذا أجد نفسي لا أدري أحيانًا إلى أين أتجه أو إلى أين يتجه بي الكون؟! ثمة أبواب تنفتح وتنغلق أمامي، لكني متجهة بطريقي الذي أخذ من فكري الكثير ووهبني الوهج والخذلان معًا، والبعض يمضي إلى قدره المحتوم غير آبه لهذا القلق الإنساني الآخذ في التصاعد وقد كثرت الحيرة، هذا اللهاث السريع للعالم يجعلني وغيري أكثر قلقًا وتساؤلاً ونحن نحدق في الحافات الأخيرة للزمن، وهذا ما يبهرني فعلًا!

أبحث عن أمور كثيرة منذ زمن ولا أزال أبحث فهل تراني أيها القارئ سأجدها؟ أبحث مثلًا عن طفولتي التي تاهت مني على ضفاف المسؤولية التي تكبرني بعشرات السنين، وأبحث عن عيون أخواني الأربعة التي تغرقني بظلامها إلى الأبد، وأبحث عن الكثير من سلوكيات البعض التي أضاعوها بتجاوزهم على شواطئ الحرية المزيفة وبين الأسلاك الشائكة التي تحيط البعض منهم، وأبحث عن نفسي وأنا أراها اليوم واقفة أمامي؛ أحمل تناقضات الحياة وأوجاع الروح ومسراتها أيضًا، حيث إنني أتلمس فيها تحديًا وترددا بما أكتبه من نصوص والتي تركتها بين يدي القراء والتي يمكنكم إيجاد التنوع فيها شكلًا ومضمونًا والتي كنت أبحث فيها عن ملامحي، وهذا ما يبهرني فعلًا!

قرأت ذات مرة للفيلسوف والمعلم الصيني كونفوشيوس يقول فيها: “من بلغ الأربعين ولم يسمع به الناس فهو ميت” وسأكون صادقة معك أيها القارئ، فقد كنت ومنذ وقت طويل لا أقف عند الجوائز بقدر ما كان يسعدني أن أشعر أنني موجودة! لماذا لم أشارك في مسابقة الأعمال التطوعية؟ ببساطة لأنني لم ولا أفكر مطلقًا في هكذا مسابقات، ولن أفكر أبدًا في مثل هذه الأمور، لا يمكن أن أحمل نواياي وأوراقي إلى جهة ما لأستعرض عضلاتي الإنسانية من أجل جائزة ما، أو أمكث تحت الأضواء لزمن معين، من أجل الفوز أو الظفر بلقب ما، أو أتنافس على لقب شخصي لا يخدمني، لا أحب ولا تستهويني الألقاب مهما كانت ومهما كان بريقها ومهما كانت العوائد المادية أو المعنوية منها، يكفي أن أعمل بصمت نبيل بعيدًا عن أي ضجيج أو ضوضاء الأضواء، لكن هذا لا يعني أنني ضد هكذا نشاط بالمطلق، أكيد أنّ الجانب الجميل فيها هي أنها تمنح للعمل التطوعي انتشارًا واسعًا على مستوى الإنسانية، وهناك من يؤيد هذه البرامج وهناك من تعنيه ومن يسعى باستماتة للمشاركة فيها والظهور عبر الجهات التي ترعاها، لكني لست من الذين يسعون إلى مثل هذه البرامج. دعني أصارحك يا عزيزي القارئ بما يلي: إن لم يكن في هذا التصريح خبث ومكر مني كما سيعتقد البعض. فأنا قطيفية من ثغر القطيف، أعيش في أرض خصبة من روحي، ومازلت أبحث في ذاتي وأعتبر البحث في الذات هو السلوك الوحيد المتاح لاكتشاف متعة العطاء التي تنهض من هذه الأرض الخصبة. وهذا ما يبهرني فعلًا!

وختامًا
كلما يمضي بي العمر كلما أكتشف أكثر أسرار الكتابة، التي تأخذ الروح في رحلة من التأمل، وكلما بادرت لكتابة نص جديد أجده لا يكتمل! ولكن لو يعود بي الزمن سأكتب كل ما أردت كتابته هنا، رغم أن بعض الكتابات لو تكتب تفقد معناها! ومع الوقت أدرك أكثر كيف أحترم وأقدس الحروف والمفردات ولعلي من موقعي أن يتوقف معي الوقت ذاته لو أردت ذلك، وتبقى الكتابة هي العالم الأفضل والأمثل للبوح والدهشة وللإبهار والانبهار، وهذا ما يبهرني فعلًا!


error: المحتوي محمي