ولادتها كانت طبيعية في شهر نوفمبر من الألفية الثانية، لم تكن تشكو من أي شيء، كالمرض، أو الإعاقة، حتى بدأ صراع الحياة معها في وقت مبكر جدًا.
فاطمة الحداد، التي تبلغ من العمر الثامنة عشر ربيعًا، لم تكن تعلم أن لها موعدًا مع القدر، لا تعلم ما ينتظرها، يأتي، يقرأها السلام، بلا لونه، ولا رائحته، ولا طعمه، حاملًا بين ذراعيه أقسى ما يمكن أن يعيشه الإنسان، أو يسمع عنه، بعد ملاحظتها أنه ثمة خلل في عينيها، يعيقها عن الرؤية، يبدو أنه خلل، هكذا حدثت ذاتها، مغمضة حدائق عينيها بألم.
دخلت “فاطمة”، مرحلة رياض الأطفال، كغيرها من الأطفال، لم يكن لديها حينها ما يريب صحيًا، كل الأمور طبيعية، إلى أن بدأت الاستعداد لمرحلة دخول المدرسة، أكملت التطعيمات المفروضة، لإكمال التسجيل في المرحلة الابتدائية، وبعد أسبوع شعرت بأن هناك خللًا في رؤيتها، وظلت طوال الليل واليوم التالي، تريد أن تنكر ما أصابها، حيث لم تعد تبصر إلا سوادًا في عينها اليمنى، لترفع الستارة في رحلة الأحزان.
الحقيقة معاناة بحث
اجتهد والدها، يدير بوصلته في كل اتجاه، زادت اشتعالات قلبه حسرة، لما تعانيه صغيرته، يتحسسها، يتحسس تكرار المرض بشكل عنيف، لمدة ثلاث سنوات، لينتهي به المطاف في الولايات المتحدة الأمريكية، لتشخيص المرض، الذي كان يسمى “مرض التهاب العصب البصري وأنسجة الأعصاب”، مرض ذاتي المناعة غير معروف السبب، يهاجم كل الأعصاب التي في الجسم، لتفقد البصر في عينها اليمنى تمامًا.
عوائق يذيبها الصبر الجميل
وذكرت “الحداد”، لـ«القطيف اليوم»، أنها واصلت التعليم بشكل طبيعي في المدرسة الابتدائية السابعة بالقطيف، لتنتقل إلى مدينة الخبر في الصف الرابع الابتدائي، متفوقة في إنهاء المرحلة الابتدائية، منوهة بلغة الأسى، الحرمان، بأن مدرستها رفضت قبولها، لإكمال المرحلة المتوسطة، لأن التعليم يعتمد على الأجهزة اللوحية والحاسوب، وهي بدأت تفقد البصر تدريجيًا في العين اليسرى.
وقالت: “رُفضت من قبل كل المدارس الأهلية، خوفًا، أو لعدم قدرتها على تحمل المسؤولية، حتى المدرسة التي تعلم لغة “برايل”، رفضت وجودي، لأنني لم أبدأ منذ الصغر، ويصعب عليهم تعليمي وأنا على مشارف المرحلة المتوسطة، لكن بعون الله شاءت الأقدار أن أكون طالبة في المدرسة المتوسطة في مدينتي القطيف”.
وأضافت: “لا أنكر خوفي في بداية الأمر وعدم تقبلي، إلا أنه لا يمكن نسيان كل الطاقم الإداري والكادر التعليمي، والطالبات بدون استثناء على دعمهم وحبهم وتشجيعهم، وقوفهم بجانبي، الآن مازالت ذكراهم وغدًا ستبقى”.
لكل إنسان مواقف حزينة، وأخرى، تعلوها السعادة، لا يغيبها النسيان، أشارت إلى أن الموقف الحزين، عندما فقدت البصر في عينها اليسرى، مما جعلها لا تبصر تمامًا بكلتا العينين، والسعيد عندما طلبت منها معلمة اللغة الإنجليزية عمل مشروع، لتقوم بإنجازه، لتعرضه المعلمة في مدرستها، كذلك في المدارس الأخرى.
مرحلة لم تكتمل فصولها
برغم اشتداد هجمات المرض المتكررة، جاءت مرحلة أخرى من حياتها، مرحلة الانتقال الكلي في المرحلة الثانوية عند التحاقها بالدمج البصري بالثانوية الأولى بالقديح من فكر، ونظرة للحياة، وبناء أحلام جديدة كبيرة، يحدوها ظل تفوقها.
عاشت “الحداد” طوال حياتها، تنتقل من برنامج إلى برنامج، برامج بعيدة عن الدمج التربوي المخصص لتعليم ذوي الاجتياجات، لأنه لم تكن لديها معرفة بوجود برامج الدمج البصري في المنطقة الشرقية، لهذا أخذتها خطواتها باتجاه مدينة الخبر، وحين العجز من قبولها، استقر ظلها في المدرسة المتوسطة الرابعة، التي تحتضن برنامج الدمج السمعي، وقتها لم يفتح الدمج البصري بالقطيف، وحين تخرجها، تم إخبارها بعدم قبولها للتسجيل في المرحلة الثانوية، للدمج السمعي، ومن الضرورة الرجوع إلى الدمج البصري، لأنه قد فتح حينها.
جاءت محطتها الأخيرة من تعليمها في برنامج الدمج البصري، لتقاسي الرفض الذاتي، وعدم تقبلها الوضع بعدها، ومع مرور الأيام اعتادت على ذلك، بتعاون المعلمات ومديرة مركز مكفوفي القطيف، أحلام العوامي، كذلك بتعارفها مع زميلاتها الكفيفات، لتعيش معهم، بعدما كانت بعيدة طوال حياتها عن عالم الكفيفات، كالغريبة الحضور.
عملت بكل جهد حتى تفوقت، تخرجت بمعدل عالٍ، ليشرق المستقبل في رؤاها، كأي طالبة للتو متخرجة، تطمح في إكمال دراستها، وتحقيق ذاتها، وتلبية أحلامها.
بدأت الحياة جميلة -بحسب توصيفها- ولم يقف في طريقها شيء، مارست هواياتها التي أحبتها من رسم، وكتابة النثر، وقراءة الأقصوصات، والسير الذاتية، تشارك في المحاضرات والحوارات، تكرم على مستوى المنطقة الشرقية، لتفوقها.
وفي ما يُعنى بالأشياء التي تنقص فاقدي البصر، أجابت: “تنقصنا أشياء كثيرة، بداية من مراكز تحتوي على تعليم التقنية الحديثة، ومراكز دعم نفسي، واجتماعي، دورات مخصصة لتعليم اللغات والأنشطة الرياضية، عطفًا على الوظائف”.
نافذة ضوء زجاجها يكسر
المرحلة الانتقالية إلى الجامعة، تأتي مطرزة بكامل الثقة، طموحها أن تبدأ دراستها في جامعة الملك سعود بالعاصمة الرياض، وتحقيق ما تصبو إليه بدراسة القانون، أو الإعلام، أو اللغويات، لتقوم بالتقديم فيها وفي مدينة جدة.
وقالت: “بعد الطلبات شبه التعجيزية، وذهاب والدتي لأكثر من خمس مرات للرياض، أتفاجأ بعدم قبولي”.
وأجابت عن دراسة الإعلام في الجامعة، تحديدًا: “إن الإعلام بوابة كبيرة، تتيح الفرص لاستخراج مهارات الحوار لديَّ، التي وجدتها في شخصيتي عندما دخلت المسار الأدبي”.
وذكرت أنها، بعد عدم قبولها في الجامعة، لم يخالجها اليأس، أو الإحباط، متخذة من الأمل قاربًا تبحر به، وغيمة تسافر من خلالها للقمم الشماء، حيث تسعى في الوقت الحالي لتقوية لغة “برايل”، لديها، والالتحاق بأحد المعاهد التي تخدم المكفوفين في مملكة البحرين.
ولفتت إلى أنها في انتظار إحدى الجامعات، بالأخص جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، لقربها من مقر السكن، ووجود عائلتها بجانبها، متمنية، بكونها كفيفة، أن تعيش كل ما يعانيه الكفيف من الحسرات والآهات، ليكمل دراسته، بأن تفتح الجامعة باب قبولها لفئة المكفوفين، وإعطائهم الفرصة في إكمال دراستهم، ومعانقة أحلامهم، وضمان مستقبلهم.
وعن توصيفها تعامل المجتمع معها، وهل ثمة شعور بالعزلة -التهميش- بكونها كفيفة، أوضحت أن المعاناة، تأتي من أنها لا تستطيع إنجاز أعمالها بدون مساعدة أحد.
وقالت: “أنا محاطة بعائلة وأصدقاء وحياة اجتماعية كريمة، وإنما “التهميش”، صدر من رفض الجامعات وفرص التعليم والوظيفة”.
وفي اندماج المكفوفين مع المجتمع، بينت أن البعض، يندمج، والبعض الآخر، يفقد الاندماج، موضحة أنه من وجهة نظرها أن ذلك يعود إلى عدم التأقلم مع العالم المبصر، أو عدم تهيئة الأهل منذ البداية للدخول في المجتمع، أو يرجع إلى الجهل في فهم قضية المكفوفين.
وعن منصة لو سمح لها بأن تتحدث نيابة عن كل المكفوفين، قالت: “إننا فخر وذخر لهذا المجتمع ولا يوقفنا شيء، نحن قادرون على إنجاز أعظم الأعمال، تفوق الفئة المبصرة”.
ومن عالم المكفوفين، ماذا تريد فاطمة، قالت: “ما نريده أن يكون، يتلخص في جملة واحدة، مفادها المساواة مع العالم المبصر بدون تمييز”.
زهرة حمراء
والآن، تقدم الكفيفة، فاطمة الحداد، زهرة حمراء، لكل من شجعها، ودعمها، وأخذ بيديها، لتكون زهرتها الأولى لعائلتها، والثانية لأحلام العوامي وكل طاقم مركز مكفوفي القطيف.