انكشافُ العطيات

نُقسمُ في الحياةِ لشركائنا أن نقتسمَ الجائزةَ قَلَّتْ أو كثرت، حلوةً أو مرةً، وفي طبيعةِ النفسِ النكوث والنكوص عندما تكون الجائزة قليلةً أو مرةً وطلبها الاستئثار بها كاملةً في كثرتها وحلاوتها. أليست هي هذه طباعنا لأننَا من جنسِ البشر؟

يحكى أنه في قديمِ الزمانِ طلبَ أحدُ الأغنياءِ شخصًا يضحكه. علمَ أحدُ المهرجين برغبةِ الرجل فلما أتاهُ قال له الحاجب: سوف أُدخلكَ ولكن لي نصف الجائزة. رفضَ المهرجُ لأنه طمعَ في الجائزةِ السنية وقال للحاجب: أنا شخصٌ ضعيفٌ محتاجٌ وعليَّ عيلة فما عليكَ لو أخذتَ سدسَ الجائزةِ أو ربعها؟ رفضَ الحاجبُ ولم يلقَ المهرجُ بدًّا من الاستجابةِ لطلبِ الشراكةِ في الجائزة.

دخل المهرجُ فقال له الغني: سمعتُ أنك تُضحك الثكلى فهل تقبل أن إذا أضحكتني أعطيكَ خمسمائةَ درهم وإن لم تضحكني أصفعكَ بهذا الجرابِ على قفاكَ عشرَ صفعات؟ نظرَ المهرجُ إلى زاويةِ في المجلسِ فرأى جرابًا ناعمًا فقال في نفسه رجلٌ غنيٌ فماذا عسى أن يكون في الجرابِ إلا هواءٌ لا يوجع! أخذَ المهرجُ يقص النوادرَ والحكاياتِ ولم يبقَ في المجلسِ من أحدٍ إلا استفزه الضحكُ وهربَ والغني مغضبٌ لا يضحك. تصدع رأسُ المهرجِ وانقطعت كل نوادره ولم يبتسم الغني. قال المهرج: ما بقي لي إلا أن تصفعني بالجرابِ عشرَ صفعاتٍ وتكونَ مكانَ الجائزة. ضربَ الغلمانُ المهرجَ ضربةً واحدةً بالجرابِ فكادت أن تخرج روحه إذ كان في الجرابِ حصا مدور.

انتهت العشرُ ضربات، وكادت رقبةُ المهرجِ أن تنفصل وأذنه تطن ثم قال للغني: ليس في الديانةِ أحسنَ من الأمانةِ ولا أقبحَ من الخيانة وقد ضمنتُ للحاجبِ نصفَ الجائزة قلَّت أو كثرت وقد استوفيتُ نصفها وبقي للحاجبِ النصف الآخر. ضحكَ الغني حتى استلقى وقال لخدامهِ آتوني بالحاجب، فأمر بصفعهِ عشرَ صفعات، قال الحاجب: ماذا فعلتُ يا سيدي وماذا جنيت؟ قال له المهرج: هذه جائزتي وأنتَ شريكي، وقد طلبتُ منكَ أن تأخذَ سدسَ الجائزةِ أو ربعها فلم ترضَ إلا بنصفها. ضحكَ الغنيُّ من عتابِ الحاجبِ للمهرج وقسم بينهما خمسمائة درهم.

في الحياةِ الكثير من حَبَائِلِ الصَّيْدِ مخبوءٌ في تفاصيلِ صداقاتها وشراكتها، نراها ونظن هي ليست سوى مروج ندوسها ثم بعدها نصل شواطئَ بحيراتِ الماءِ العذبة ولو عرفنا ما فيها سلفًا قلنا: آه، ما أقسى هذا الشوك! لا نريد أن نمشي فيها. والكثير منها نظن أنها صفعاتٍ ليس معها دراهم وعندما تتوقف الصفعاتُ ويُمحى أثرها ويُنسى ألمها تأتي الدراهم. كلنا نمشي في طرقاتِ الحياة نبحث عن الجوائز في حسنِ النوايا، في بعضها تكون وفي بعضها لا تكون ” قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.

في نوادرِ الوفاء، أصابت الخنساءَ ضائقةُ المالِ فشطر أخاها صخرٌ ماله نصفين وخيّرها بين أحدهما، حتّى ملّت زوجته واعترضت فقالت: أما كفاكَ أن تقسمَ مالك حتّى تخيرها؟ فقال: والله لا أمنحها شرارها وهي حصانٌ قد كفتني عارها، ولو هلكتُ مزّقت خمارها واتّخذت من شعرها صدارهَا، وأعطت الخنساءُ كُلَّ قلبها في الوفاءِ لصخرٍ في حياته وبعد موته أبقته حيًّا في صفحاتِ تاريخِ الرجالِ والمعالي:

أيا صخر هل يغني البكاءُ أو الأسى
على ميتٍ بالقبر أصبحَ ثاويا
فلا يبعدن الله صخرًا وعهده
ولا يبعدن الله ربي معاويا
ولا يبعدن الله صخرًا، فإنه
أخو الجود يبني للفعالِ العواليا
سأبكيهمَا والله ما حنَّ والهٌ
وما أثبتَ الله الجبالَ الرواسيا
سقى الله أرضًا أصبحت قد حوتهما
من المستهلاتِ السحاب الغواديا


error: المحتوي محمي