أعطانا الزمانُ ساعةً في الصحراء، عدنا فيها لحياةٍ فيها من الماضي ما لا يتأوه المرءُ على غيابه وفيها ما يشد الإنسانَ إليه من الصفاءِ والحب العذري في صحاري نجد ما شد قيساً لليلى. وجدتُ فيه النقيضَ والجمعَ بين والدي والبدوي اللذينِ عاشا من الطبيعةِ وماتا فيها. وجدتُ الصحراء صبيةً زيّنت وجهها تجاعيدُ الرملِ الذي ينبسطُ وينقبض.
حياة فيها خشونة حصا الجبالِ التي تحيط بالصحاري تمنع نعومةَ رمالها من الاندثارِ وكأنها تقول للريح: هبي ما شئت، لن تفرقي ما اجتمعَ من شِعرٍ وشجاعةٍ وكرمٍ وعشق. جاء المساءُ وهبت رياحُ الشمال في بردها وعشنا مثل العربي القديم في لباسِ الحاضر الذي أبقى له خشونته. هبت الريح وليس لبردها إلا النار التي تضيء ليلَ الصحراءِ الذي حين كان يصف فيه البدوي لقاصديهِ الطريق: اجعل القمرَ على يمينك ثم انظر نارَ الكرمِ أمامك من بعيد وتعالَ عندها نلتقي ونحب بعضنا أو نتحاربَ وكأننا ليلٌ ونهار، حب وبغض. في الخباءِ الغزل وفيه السيفُ والرأس وباقي السلب. فيه ذكرى من ضفائرِ شعر المحبوبةِ ونسيج ردائها. نقيضان، الله كيف يجتمعان؟! وكما قال محيي الدين بن عربي:
كذبَ الشاعرُ الذي قال قبلي
وبأحـجارِ عقـلـهِ قـدْ رمـاني
أيها المُنـكِحُ الثريـّا سُـهيـلاً!
عَـمـرَكَ الله كيـْفَ يَلْتـقـِيَـانِ
هيَ شامـيَّةُ، إذا ما استقـلتْ
وسُهـَيْلٌ، إذا استـهَلّ يَمَـانِي
ساعةً وتنسى ترفَ العيش الحاضر وتعود لعذريةِ الحياةِ في ندرةِ الماء والرفاهية. تأكل ما يسقط من يدك ولكل أكلٍ وشربٍ ولباسٍ قيمة، فربما لن تجدها وقت الحاجة. تسافر لكن دونَ حدود ودون جواز سفر، كم أتمنى أن تنقلعَ كل حدود الدنيا، لا ضجيجَ ولا صراخ يصم أذنيكَ سوى قانون ناي حباتِ الرملِ وورد الخزامى.
ينزل القمرُ وكأنه سوفَ يغطيك، يقول لك: ارفع رأسكَ أيها العربي فأنا وأنتَ أصحابٌ كلما رأيتني قلت: يا صاح أوقد النار أوقدها. أعادتني لحياةِ والدي في البحر الواسع اللامحدود، يرحل إليه في الليلِ تحت جمال القمر وثقل البرد يقول: يا بحر أعطني أنا عائدٌ اليك. كلاهما، الصحراء والبحر يجودانِ على من يأتيهمَا ليس فقط بمادةِ الحياة ولكن في أزليةِ الصفاتِ وكأنَّ الماء والصحراء قيس وليلى مرةً يجتمعان ومراتٍ يفترقان.
في زحمةِ الحياة متى ما أعطتك الدنيا ساعةً خذها في البر أو البحر، إذ ليس كل الساعاتِ تنقص من عمرك، كيف إذا أعطتك الحياةُ يوماً كاملاً من البهجة والسرور؟! والدي والبدوي تربيا معاً في الصغر على حب الماءِ والرمل وكانا رفيقينِ يلعبان في أيام الصبا دون أن يعرف أحدهما أخاه. صبَّ حبهما قيسٌ في قدحِ ليلى وأحبته وقال فيها:
تعلَقـتُ ليـلى وهـي ذات تـمائـم
ولم يـبد للأتـرابِ من ثديـها حجمُ
صغيرينِ نرعى البهمَ يا ليـت أننـا
إلى اليومِ لم نكبر، ولم تكبر البهمُ
ليت البحرُ أعطى الصحراءَ شيئًا من الماءِ وليت الصحراء أعطت البحرَ الخيمةَ والسيف، توأمانِ لا يفترقان ويكملان بعضهما…