للفن والجمال المبدع سحره ووهجه، فبعضه يجعلك تتمايل وتتراقص طربًا، وبعضه يجبرك على إبداء كلمات الإطراء والتقدير بالقدر الذي يهبك الله قدرة عليه لا بما يستحق العمل نفسه.
بالرغم من انبهاري بما شاهدته في معرض المبدع الأستاذ محمد الخراري “ذاكرة جصية”، إلا أن إقامة المعرض في صالة خاصة في مدينة الخبر فرض تساؤلات عن سبب إقامة المعرض المميز الخاص بزاوية محددة من عبق وتاريخ القطيف تحديدًا؛ خارجها؟!
هذه التساؤلات ذكرتني أيضًا بالمشهد الرهيب لرؤية حاوية النفايات التي كانت تحوي في ذاك المشهد الرهيب الأرشيف الفني الخاص بأعمال نادي الفنون بالقطيف الذي خرج من مركز الخدمة الاجتماعية بالقطيف باعتباره نفايات هذه المرة، وقبلها خرج أو أخُرج أيضا النادي نفسه من الصالة الخاصة به لدى مركز الخدمة الاجتماعية بالقطيف.
عندما أرى هذه الطفرة التي تشهدها المملكة في الاهتمام بالتراث والثقافة، ونراها عمليًا -وليس شعرًا- تتجسد على أرض مدينة العُلا -كأحد الأمثلة الحية- التي زرتها قبل خمسة وعشرين سنة. وهي مدينة تاريخية صغيرة جميلة تقع في جوف الصحراء على بعد 300كم من المدينة المنورة، لكنها وبفضل الإرادة والجهود الجبارة التي بُذلت استطاع أسمها أن يصل إلى اسماع العالم وينبهر بها وبجمالها ويتطلع لاستكشافها.
أعود لتساؤلاتي التي لعلها تحتاج إلى إجابات عملية ترقى لمستوى هذا الفن وهذه الطاقات المبدعة التي تحتضنها القطيف في كل زاوية منها، والجهود المتدفقة التي تنهمر من كل صوب في صورة يندر أن ترى مثيلًا لها في المناطق الأخرى بهذه القوة في الجودة والعطاء.
لابد للقطيف أن يكون بين جنباتها وفي قلبها أيضًا مكان وقلب ومتسع جاذب وداعم لإقامة مثل هذه الفعاليات الفنية والثقافية، فالمدن هي تجمعات بشرية تتفاعل وتتناغم مع ما حولها من نِعم الطبيعة لتتشكل وتعيد إنتاجها على شكل فن وإبداع وثقافة تزدان به، وليست كتلًا أسمنتية خرساء لا تنفذ إلى شوارعها ولا تخرج منها إلا بسلطان.
إن النجاح الذي تحقق في مدينة العُلا أعطى دافعًا أكبر لارتفاع سقف الطموح والآمال خصوصاً في بقية المدن التاريخية الأخرى في المملكة، لتحقيق قفزات نوعية وحقيقية شبيهة ومنافسة لما تحقق وشاهدناه بأعيننا وأعين الوافدين لها وسط الصحراء من كل صوب، وهنا الدعوة موجهة لهيئة السياحة والتراث الوطني لتبني مثل هذه المعارض المميزة والمبادرات الخلاقة لتطوف بها بين مختلف أرجاء المملكة كي لا تبقى حبيسة زاوية في صالة معرض هنا أو هناك.
معرض “ذاكرة جصية” بالنسبة لي هو تكريم واحتفاء بالإبداع الثقافي والتراثي للمنطقة وإن لم يجد له مكانًا للعرض في منبته وبيئته، فها هو الآن يرتسم في شكل هذه الفعالية وهذا العزف المنفرد الجميل للأستاذ الخراري، وقد سحرني جمال الصورة والفكرة نفسها للمعرض مما جعلني أقف إجلالاً لهذا العمل الرائع وجعل تلك الليلة أجمل على الروح والقلب.