القرطاس ومواويل الحارة (2)

غاب عن ناظريه، في حين جعله يصارع الأفكار، لا يلوي إلى ضفة، يستريح عند شرفتها، أرهقه التعب، الترحال، صومعته مزدحمة بالأوراق المترامية على الأريكة، فوق مكتبه الخشبي، كلمات متناثرة في كل زاوية، يشعر بأنه لا مستقر نفسيًا، لا فكريًا، خارج أسوار صومعته، واقع يؤدلجه بعيدًا عن الواقع.

بدأ مرحلة التأمل الذاتي، يسقط كل الأشياء من حوله -كما يشاء-، يشتهي، يترنم شوقًا بالإصغاء، يصغي للأشياء، التي لا تبصر، يتخللها، لها كلمات أخرى، معانيها، تختلف، هكذا يعيشها. لم يعد، يتعلم الأبجدية، ليكتب الآخرين -كما عرفهم-، تجاربهم، لم تعد تكفيه، ليبحر في الشخصيات، الآخرون، يتوافقون معك، فقط في تلبية رغباتهم، حدثه ذات قلق، أن الآخرين، يبحثون عن ما ينقصهم، فلا تكن السلة المملوءة بالفواكه، الانتشاء بها وقت الراحة، ليتمتعوا قليلًا، لتبقى قشرة خرساء، أنت. قال برنارد شو: ابق بعيدًا عن الناس الذين يحاولون أن يستهينوا بطموحاتك، الصغار يفعلون ذلك دائمًا، لكن العظيم فعلًا يجعلك تشعر أنك أيضًا، يمكن أن تصبح عظيمًا.

خرج للتو من المنزل، توجه للحارة، الحارة، التي تحمل في جعبتها ذكرياته الأولى، جاء، ليصغي، مواويل الحارة القديمة، لم يصغ بأذنيه، كحالة طبيعية، إنما من خلال تذكار ما أبصرته عيناه، ما تبعثه درامية المكان والزمان، درامية الأحداث، المواقف، التي اختزلتها الذات، مع رفقائه، يلعبون “المخطة”، ضحكاتهم، تعلو شفاه البراءة فوق محياهم، لم يكن الحقد والحسد، الضغينة، لها وقعها، كل الأشياء، تسير على طبيعتها -هوينتها-، حتى ما يغضبهم، تحمل بين أروقتها، أمورًا بسيطة، لا تتعدى ما يتوافق، مع البراءة، أحلامهم الصغيرة، اللامتعبة. كان منجذبًا حد الثمالة إلى اللعب واللهو، مهملًا في الدراسة، لا يعيرها اهتمامًا. بدأ الشغف باليراع والكتابة، يحيك خطواته الأولى في المرحلة المتوسطة، لتصل انفعالاتها باتجاه الذروة بالمرحلة الثانوية، ليكون عاشقًا للدراسة والعلم، مرورًا إلى الجامعة، خصوصًا في ما يُعنى بالأدب والثقافة.

رن هاتفه النقال، يبدو أنها رسالة منه، عبر الأثير، أسرع، لرؤيتها.

قرأ:
– أنا عاشق، وكفى.
كعادته، يكتفي بكتابة حروفه بإيجاز، أكان يريد أن يبحر معه، في دنياه، ما تنطوي عليه أنفاسه، في كل مرة يدخله دهاليز، لم يكن يعرفها مسبقًا. هو، لا يدعي أن مرحلة المراهقة، لم تقتحم أمثاله، كان مبتعدًا عن الولوج في بساتينها، مستنقعاتها. ثمة ما يخفيه، أشواق، رغبات، استطراد الطريق، الإحساس داخلي، يهفو لشيء ما، الأنثى لم تبان ملامحها بعد، هي مجرد مشاعر رغبة. الشاعر حسين سهوان في أبجدية العشق، يبوح: نقتبس، لنحرك الأبجدية الراكدة؛ لتواسينا مرة أخرى، فذلك الألم تصلب داخلنا، وتحول إلى مقام يصعب الابتعاد عنه!‎


error: المحتوي محمي