تشير عقارب الساعة إلى أنها العاشرة من ضحى يوم هادئ، وفي البدء قبل أن أكتب هنا تلوت قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [سورة الانشراح].
هذا ما أتمناه وأنا صادقة في جوف الكتابة وبصدق الحرف لأصنع قوس قزح من الصحة والعافية، رغم أن المرض يلمح لي أنه لا زال هنا يمارس دوره بإتقان.
ذات يوم مرِض جحا مرضًا خاف منه ولما سُئل عمن يرثه، قال لا وارث لي فقيل له وأمك؟ فأجاب طلقها أبي من زمان. هكذا صار حال البعض منا، تبًا لهذا الزمن الذي يعج بالمتناقضات والإسقاطات والتجاوز والجحود، لكننا كيف نتعلم أقوى وأصدق العواطف والأحاسيس وأكثرها تركيبًا، سنتعلم الحب والاحترام، كيف نحب بعضنا البعض؟ وكيف نحترم بعضنا البعض؟ وكيف نحافظ على خصوصية بعضنا البعض؟ هذه ليست محاكاة أو تقليدًا وإنما تجانس رؤى إنسانية بقيم أخلاقية من أجل صحتنا وعافيتنا ليس إلا.
كنا دائمًا عندما يلبسنا الوجع أيًا كان نوعه وشدته نحاول أن نتأوه ونئن بصوت مبحوح، ولكن من منا كان يسحب القارئ إلى بساط البوح على كرسي الاعتراف! ومن منا على موعد مع دهشة المرض وسط ضجيج الفضول من البعض! ومن منا يطيق المرض ويتحمله دومًا! حيث المرض يستدرجني للبكاء ويستفزني وهو يسحبني خارج زمن التحمل! إذن هذه هي سنة الحياة التي لا تطاق بشكل واحد، تجربة المرض أعطتني الفرصة هنا لأكتب معاناتي ولم أكن مستعدة لذلك، لا أظنك ستفهمني أيها القارئ الكريم لكني سأحدثك، إنها تجربة حزام ناري مجنون وامرأة تبحث عن الشفاء والفرار منه.
ليس حلمًا بقي سوى يوم ساكن يمر بلا وجع بلا أدوية، يتم تناوله في جاذبية التمني على نيل الصحة، والتي دونها يكون المرء مشلولًا والآهات تنشر بتمرد الأنين فيتعثر فيها كل شيء.. ما يؤلم حقًا أن أغلب الأوجاع كأغلب الظن في منتصف الظروف وفي تمامها، ولكن ما عادت الأوجاع تبدو بذات القسوة، فقد تعودنا عليها حتى أصبحت غير مؤذية إلا قليلًا وقد تعود إلينا غير آبهة.
نعم وأنا أقصد الحزام الناري الذي زارني دون استئذان ودون تأشيرة، هذا المرض المؤذي يبدو آمنًا فهو موجه كما يوحى لي في الاتجاه المعاكس فلا مناص ولا جدوى من نيل التهدئة، حيث يداهم الشخص في حجم يتجاوز الاستفزاز والمصاب لا تهدأ نفسه وهو في دوامة احتضان الوجع ومرهونًا بطقوس سهر الليل ومحاطًا بالأدوية! أتساءل كيف يكون الصبر وسيلة التعافي؟! يا لسذاجة سؤالي حد المرارة بل حد الشفقة الذاتية هل من مجيب؟! أعترف لم أتجرأ أن أسأل الله يومًا: لماذا داهمني هذا الحزام الناري على غفلة مني؟ وكيف تحملت أوجاعه وأرق الليل دون نوم؟ لكني سألته فقط وأنا أسيرة الوجع: إذا كان سبحانه راضيًا عني! والسؤال أكثر من الدهشة.
رغم كل الذي دار في نفسي من تساؤل كان نصًا شخصيًا مربكًا، نصًا مؤثثًا على صدق التجربة، وخلف مفرداته ألم يكد يستنزفني هذا الوجع له شهور؟ حيث تكاد أن ترهبني التجربة وتخيفني تكهناتي تارة، وتأخذني بعض الأفكار دون أن ترف لي جناح الطمأنينة بالليل الطويل، وتارة أغبط خيوط الشمس التي تداهمني بعد أرق طويل، رغم أنني للوجع صابرة أتحسس أنفاسي الخافتة، حين تلامس خصلات شعري بلا مبالاة، ومازالت رائحة الأدوية في ثيابي وبعض من أنيني في حنجرتي المجهدة.
كل هذا كان مجرد تجربة شخصية ودونتها هنا بأسلوب شخصي أيضًا دون خيال، تجربة فقداني تاج الصحة لمدة خمسة شهور! ولابد أن أسجد لله شكرًا وحمدًا كثيرًا لفضله ونعمته علي بالصحة. وهنا فكرت أن أجمع ما تبقى من أدويتي وألقي بها في صيدلية البيت بلا رجعة، ولكن ما جدوى قرار تركها بعد أن استوطن الحزام جسمي، سيكون مجرد إحساس لتجربة تغيير للون الوجع ليس إلا.
علمتني هذه التجربة المريرة وإن كنت أعرف ذلك تمامًا أن لي زوجًا ملاكًا يشاطرني كل أوجاعي حتى تخيلت أنه مصاب بالحزام الناري مثلي، وقد أحاطني بالحب والحنان والحرص والاهتمام، وهو يستحق احترامي وتقديري وشكري، حيث كان لا بد أن أكتب إحساسي، رغم أن الكتابة الشخصية ليست سهلة وقد لا تكون مقبولة اجتماعيًا للبعض، بل إنها حالة إنسانية بكل أنواعها وإن الحياة تعبر عن نفسها فينا نحن البشر من خلال الكتابة.. سأغمض جفني لأستسلم لنوم عميق.