الذوق هو قمة الأخلاق وعطرها (2)

إنَّ الذَّوق هو قمَّة الأخلاق، ويتجلَّى من تعاملاتنا مع البشر وأحاديثهم الّتي تطوي أجمل المشاعر وأنبل العواطف، فالذّوق شعور اجتماعيّ محبّب، يدعو صاحبه إلى مراعاة مشاعر الآخرين وظروفهم وأحوالهم، مما يقرّبه إلى نفوسهم ويكسبه تقديرهم. فالذوق هو القدرة على إدراك القيم والمعاني ومواطن الجمال التي تتضمنها المشاهدات العامة.

هي ظاهرة أصبحت مرتبطة بتعاقب الأجيال واختلافها وتصارعها أحياناً، فما كان يصنف سابقاً أنه تدنٍ في الذوق العام، يعتبر بعضه اليوم في قمة «الذرابة».

فكم هي نسبتهم الذين يراعون ما يتفق عليه المجتمع من الحد الأدنى من الأخلاقيات العامة المكللة باللطف والتهذيب، كأن يقابلوننا بابتسامة وقورة، وأن يبادروا بالتحية اللطيفة وأن يفضلونا بالعبور قبلهم؟ كم نسبة المراهقين والشباب الذين يحرصون على استخدام الكلمات السحرية مثل؛ لو سمحت، من فضلك؟ كم نسبتهم الذين ينتقون ألفاظهم كما تنتقى أطايب الثمر؟ إن تدني تلك السلوكيات مؤشر واضح على تدني الذوق العام في مجتمعنا.

من أين يستمد المجتمع قواعد الذوق العام الخاصة به؟ هل ثمة نظريات تخص الذوق العام؟ وكيف نستطيع رسم إطار للذوق العام في كل مجتمع؟ أم أن الذوق العام مسألة مرتبطة بالعقل الجمعي البشري وتمتد جذوره إلى مشتركات الأديان والأعراف وعلم الأخلاق؟ سؤال يصعب الإجابة عنه في ظل عملية التغير الاجتماعي المستمر، وفي ظل استفحال هوس التفكير الأوعج للبعض والسلوك المتدني والتغير المستمر على أنماط الحياة.

فبعض المراهقين والشباب يرون أنهم غير ملزمين بكسب رضا الآخرين عن ملابسهم وطريقة حديثهم وأسلوب تعاملهم. وبعض الناس يرى أنه غير مضطر لمجاملة الآخرين وإطالة الوقت معهم فيما لا معنى له. وكثيرون يرون أن التعامل مع الآخرين يجب أن ينصب في الهدف والمقصد مباشرة وأنه لا يوجد وقت لتبادل الكلمات الزائدة والنقاشات الجانبية.

ولكن للأسف، نرى، وبشكل لافت، اتساعاً لظاهرة الذّوق الهابط في مجتمعنا، إلى درجة أصبح فيه ذلك الذّوق سلوكاً اعتدنا عليه، وغالباً ما يقابل بعدم الاكتراث، مع أنّه وصل إلى مستويات متدنّية تثير القلق بمختلف أنواع الهبوط الذوقي، سواء كان جمالياً أم سلوكيّاً. فتراجع هذا الذّوق في معاملاتنا وحياتنا يشير إلى اختلال جانب من جوانب المنظومة الأخلاقيَّة.

وبالرّغم من أنَّ الذّوق الجمالي يرتبط بدرجة كبيرة بخصائص الأفراد، فإنَّ له مظاهر سلبية على المجتمع في حال التّراجع، ولعل من أبرزها، ما يطلق عليه التلوّث السمعيّ والبصري، إذ يندر أن نسمع أو نرى شيئاً في شوارعنا من دون أن يخدش سمعنا أو بصرنا بشكلٍ أو بآخر. وهناك أسباب عديدة تقف وراء هذه الظّاهرة المعيبة، بعضها يرتبط بغياب دور الأسرة الحقيقيّ التّوجيهي.

وكذلك يجب ألا نغفل دور وسائل الإعلام وقنوات التواصل المختلفة في توجيه الذّوق العام في المجتمع وتقويمه، والاهتمام بتحسين سلوك الفرد، فعلى هذه الوسائل أن تخصِّص جانباً من اهتمامها لتوضيح الذَّوق العام ودلالاته للأجيال الحاضرة، لِمَا لذلك من مردوداتٍ إيجابيَّة على المجتمع.

وهناك مشاهد وسلوكيات كثيرة انتشرت في أوساط مجتمعنا:

المشهد الأول

يمشي في الشارع وبيده علبة عصير يشرب منها، ينتهي من شربها فيرميها في الشارع على الطريق، أو بجانب الرصيف، ويمسح فمه بمحرمة ورقية ويرميها أيضاً.

المشهد الثاني

يقف في وسط الشارع بسيارته ليطلب سندويشاً، أو غرضاً من البقال أو المطعم، والسيارات من ورائه تصطف إلى أن تجد لها منفذاً، أو يمسك يمين أو يسار الشارع عند الإشارة الضوئية وهي حمراء ويتسبب في تعطيل من لهم أفضلية المرور؛ أمر مزعج للغاية.

المشهد الثالث

يدخل المسجد بثوبه المليء بالبقع وبرائحته التي تضايق من حوله، ويجلس بجسده المتعرق وسط المصلين، ويؤدي صلاته وأدعيته ويغادر وكأن شيئاً لم يكن، أو يخرج مرتدياً ملابس النوم (الروب) أو مرتادًا الأماكن العامة كالمساجد أو المستشفيات أو الأسواق غير مبالٍ.. كثيرة هي المنغصات التي يعاني منها مرتادو الأماكن العامة من غير المبالين بالذوق العام ومراعاة الآخرين.

المشهد الرابع

تدخل المحاضرة، وتريد أن تنصت، ولكن همهمات بعضهم تشغلك عن الاستماع، فيما آخرون يشربون الشاي ويضحكون في باحة لمسجد، غير آبهين بتأثير فعلهم على الذين قدموا للاستفادة.

المشهد الخامس

يخرج من المسجد ليشاهد فوضى عارمة عند النعال، وما أن ينتهي من الوصول إلى نعاله بعد جهد جهيد، إلاّ ويتفاجأ بمن أقفل المخارج أمام سيارته، ووضع سيارته سدّاً منيعاً كي يمنعه من المغادرة.

المشهد السادس

تمشي في السوق وأنت مستعجل وإذا بواحد أمامك لا يهمه ما أنت فيه ويمشي على مهله ولا يعطيك مجالاً لتجاوزه، وتصل للمحل الذي تريده وقبل أن تطلب يأتي آخرون ويتقدمونك في الصف غير مبالين أنك قبلهم.

المشهد السابع

التدخين في الأماكن العامة والمغلقة، فضلًا عن التدخين في المصاعد، وهو أغرب ما رأيت، يدل على الأنانية والاستهتار بالأنظمة والقوانين، وتجاهل حقيقة العيش مع أناس آخرين لهم حقوق مضمونة شرعًا وعرفًا.

المشهد الثامن

انحراف حاد وسرعة متهورة واستعمال الجوال أثناء القيادة في تحد فاضح لمنطق العقل والقانون، والتحدث بصوت مرتفع أو من خلال مكبر الصوت في أماكن عامة، إضافة إلى البصق وإلقاء المهملات قريبًا من براميل القمامة، واختفاء كلمة «من فضلك» من قاموس بعضهم، دليل على سوء المعاملات الاجتماعية وخرق لأصول الذوق السليم.

تتكرر المشاهد، هذه وغيرها، وكلها من وجهة نظر واحدة تعبر عن انعدام الذوق العام، وعن تخلف عما يسمى هذه الأيام “بالسلوك الحضاري”.

ومثل تلك السلوكيات، لم تعد فردية، بل هي في رأيي ظاهرة اجتماعية، استمرأها بعض البشر ممن «تخلفوا» عن ركب الأخلاق الحميدة، والذوق السليم.

ولكن هل تساءل المرء عن منبع ومنشأ هذه التصرفات؟

بعض الناس بطبيعتهم وفي أغلبهم بسطاء جداً، وعلى نياتهم الطيبة، وكثيرون هم ممن لم ينالوا دروساً ولا تربيةً في الذوق العام، هؤلاء البسطاء يمرون بظروف قد يكون الفقر وقلة التحصيل العلمي أحدها، فلا يفكر في نظافة نفسه لانشغاله ببطنه وبطون عياله، ولا يسعه الوقت والمال كي يصرف على عطره ريالا واحدًا فيما بطن أحد أولاده يحتاج لنصف ريال كي يهدأ.

ولكن هذا أمر غير مبرر للقيام بهذه التصرفات والسلوكيات الخاطئة التي تجعل من هذا المجتمع يعيش حالة من الفوضى السلوكية وغير الحضارية، وكل شخص منحه الله عقلاً راجحاً يستطيع به تنظيم حياته المادية والاقتصادية والأسرية.

كما أن وتيرة الحياة الصعبة ظرف آخر يجعل المرء أحياناً يغفل عن تصرف لائق يعرف حسنه، وأحياناً ينسيه ظرفه الصعب، وتعاسة الحياة أن يكون لبقاً أو “ذوقاً”، كما أن قلة الوعي، وافتقاد الإرشاد، ونوعية الثقافة التي تغرس في النفوس والعقول، كل هذا له تأثير في تشكيل هذا الإنسان، فمن المسؤول عن كل هذا؟

أليس المثقف والعالم والخطيب والواعي هو من يقع عليه الواجب؟ أليس هذا جزء من واجب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وواجب “النصيحة” وواجب “التواصي”؟

النقد والتبرم وتوزيع الأحكام والألقاب سهل جداً للتهرب من مسؤولية هذا المجتمع والتي تقع في أعناق الجميع.

كما أن الكتابة هنا وهناك وحدها لن تحل مشكلة هؤلاء، لأن أغلب هؤلاء لا يقرأون وليس لهم حتى رغبة في التعليم والثقافة، فلابد من النزول للميدان والعمل على معالجة كثير من المشاكل قبل خلق “الذوق” وقبل تشكيل المجتمع المثالي الراقي.

تقبل الناس كما هم أولى خطوات العمل لتغييرهم نحو الأحسن، ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾.

المشهد الأخير

قديماً قيل: إنَّ الأدب وسيلة إلى كلّ فضيلة، والتزام الأدب مرقاة إلى أعلى الرّتب، وعندما زكّى الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل: إنك على صلاة عظيمة أو صيام عظيم وغير ذلك بل قال: ﴿وإنّك لعَلى خُلقٍ عَظيْم﴾ ووصفه بأجمل الأوصاف وامتدحه بالخلق العظيم.

ووصفه بأجمل وصف، وهذا إنَّ دلّ على شيء فإنه يدلّ على مكانة الأدب والذّوقيّات في الإسلام، الأمر الَّذي جعله يتدخَّل في أدقّ تفاصيل الحياة، ويضع فيها لمسة الذّوق الرّفيع والأدب البديع.

وليست الأخلاق الحميدة والذّوقيّات الفاضلة منفصلة عن أوامر الدّين وأركان الإسلام، إذ هما متلازمان تلازم الجناحين في الطّائر، وهما صنوان لا ينفصلان أبداً، بل إنَّ كثيرًا من الأدب مع قليلٍ من العمل الصّالح، خير من العمل الكثير مع قلَّة الأدب.

والذوق هو قمة الأخلاق حين تتألق في إنسان وتتجلى في أحاديثه وتعاملاته التي تنطوي على أجمل المشاعر وأنبل العواطف، فالذوق حركة من لطائف الروح وصفاء القلب. والذوق هو سلوك الروح المهذبة ذات الأخلاق المرضية.

الذوق حاسة معنوية تدعو صاحبها إلى مراعاة مشاعر الآخرين وأحوالهم وظروفهم، والذوق هو أدبيات التعامل مع الناس.. جمال التعامل بأشكاله المتعددة: النفس المرهفة الجميلة.. الموقف الجميل، التصرف الجميل، الحركة الجميلة، اللمسة الجميلة، الكلمة الطيبة، جمال النظام، جمال النظافة، جمال الطريق، جمال الأماكن العامة.

الذوق هو النفس الشفافة التي تفهم الخطأ، وتقدر وقوعها فيه من نظرة العين، وابتسامة الوجه.

وختامًا فالذوق هو الإنسان في أبهى صورة وأرقى حضارة، وصدق الله الذي عظم شأن رسوله بالثناء على أخلاقه.


error: المحتوي محمي