في صفوفِ المدرسةِ الأولى قبيلَ انتهاءِ عام 1970م، كنا نجلس على مقاعدَ خشبية فيها صندوقٌ من الحديدِ نخبئ فيه كتبنا ودفاترنا حين نكون في الصف. يدخل المعلمُ القادمُ من بلادِ الشام ويقف عند أولِ مقعدٍ أمامنا، ثم يسود الصمتُ حتى لو تنفس أحدنا سمعناه. لحظات ثم يطرق المعلمُ على المقعدِ بعصا في يده ويقول: قيام. كنا نقومُ وكأن القيامةَ قامت، ندفعُ مقاعدنا نحو الأمامِ وتظهر أقدامٌ عارية وملابسُ قديمة، وملابسُ أنيقة، ولكن كلنا أكتافٌ مرتفعة، وصدورٌ منتفخة، وبصوتٍ واحد نردد معه “قيام”. ثم يأتي النداءُ “جلوس” وكأننا متنا مرةً أخرى ثم عدنا للحياةِ جلوس.
عندما زرع فيَّ المعلمُ والأيامُ المعالي عرفتُ أن أقومَ للعلمِ والمعلم، أقومُ لمن علمني الكتابةَ ومن علمني الأدب، أقومُ لأبي وأقوم لأمي. لم يكن للمعلم زيّ يعرفهُ الناسُ ويقومون له، ولم يرتدي شارةً مكتوبٌ عليها “أستاذ”. تعلمتُ أن أقفَ للطبيبِ الذي يداوي جروحَ جسدي، لا يأنف أو يتأفف أن يقومَ بأشياءَ كان أبي وأمي يقومانِ بها عندما كنت صغيراً، وفي خريفِ العمرِ عارياً مرةً أخرى ليس إلا الطبيب! أقف لمن علمني كيف أقتصد وأعيش عندما تكلفني الحياة ما لا أستطيع.
عرفت أن أقوم لمن يعالج جروحَ روحي وقلبي وعقلي، عرفت أن أقومَ للعاملِ الذي علمني كيف أستخدم يدي، وفي نهايةِ الأيامِ عرفتُ أن أقوم “للإنسان”. لا يحتاج الإنسانُ عندي أن يرتديَ زيَّ راهبٍ أو زاهدٍ لكي أقومَ له بل عليه أن يرتدي زي “إنسان”، ثم يعلمني كيف أصلي في القيام وكيف أقومُ لكل من علمني الحياةَ حتى يظن الناسُ أنني سوف أموتُ من قيام!
نتمايزُ في أزياءَ تخفي تحتها مزايا يُظهر الناس احترامهم “لكل” من لبسَ تلكَ الأزياء وكم من إنسانٍ بيننا لو علم الناسُ ماذا يعرف وماذا يعمل لجلسوا عن غيره وقاموا له. هكذا الحياة إن أردناها أن تكونَ في القشورِ تكون أو في اللباب تكون! إن كنت اليوم شاباً، لا تحتاج لشيخٍ واقف على أطلالِ الأيامِ يعلمك ألا تقف للأزياءِ ولكن ما تحتها من روحٍ وعقلٍ وعلمٍ في ذلك الإنسان:
فإن يك عامرٌ قد قال جهلاً
فإن مظنة الجهلِ الشبـابُ
فكن كأبيك أو كأبـي بـراءً
توافقك الحكومةُ والصوابُ
ولا تذهب بحلمكِ طاميـاتٌ
من الخيلاءِ ليس لهن بـابُ
فإنك سوف تحلم أو تناهى
إذا ما شِبت أو شابَ الغرابُ
“النابغة الذبياني”.