ثرثرة الناس

طبيعة الإنسان أن يتعاطى الآراء ويناقشها ويديرها في عقله، لذلك تتكون شخصية الفرد من خلال قدرته على غربلة ما يسمعه من الأحاديث والمرويات التي تتداول على ألسنة الناس، فالكل سيدلي بما لديه سواء طلب منه ذلك أم لا من باب النصيحة أو الثرثرة التي لا تخلو مجالسنا منها، وقد تكون تلك الأحاديث الدائرة لا تحمل في طياتها إلا الكثير من الآراء الشخصية التي لا تمت للحقيقة بصلة لأن لكل فرد منا في هذه الحياة بيئة حاضنة تؤصل فيه رؤى معينة وتجربة تختلف مما تصنع واقعًا قد لا تتوافق مع تلك الأحاديث والآراء غير المدروسة من كثير من الجوانب إنما كما أسلفنا فقد تكون للثرثرة أو النصيحة القائمة على التجربة الشخصية أو أنها ليست تجربة إنما نقل عن أحاديث الآخرين ممن واكبوا تلك التجربة، وغالبًا عملية نقل الأحاديث يعتريها الزيادة أو النقص.

البعض يستحضر أو يشير لأفعال أفراد قد مروا بنفس التجربة، لكن حين نستعرض تجارب الآخرين علينا أن نتفحص صفات الأشخاص ودوافعهم وثقافتهم وأخلاقياتهم وبيئتهم والكثير الذي قد نسقطه سهوًا حين التبحر في حيوات الآخرين وما مروا، ومن المحتمل أننا لا نصيب أثناء استظهار التجربة ونبني بعض ما تأولنا على العاطفة، أي لا يمكننا حقيقة أن فلان فعل كذا وكذا لأننا فقط سمعنا من آخرين ولم نسمع منه تجربته وأيضًا حين نحاول أن نستفيد من تجارب البعض علينا أن نبصر مقدراتهم الفكرية والسلوكية.

فهناك من يدخل كلام الناس في حياته الشخصية أي لا يخطو أي خطوة إلا ويضع كلام الناس نصب عينه وكأن كلام الناس آية من آيات الله فيتعس نفسه ويتعس عائلته، وإن كان تحركه أو تحرك عائلته لا يخرج عن إطار الشرع أو المتعارف أو العمل الشخصي الذي لا يضر الآخرين، فإن كنا ننتظر الناس هي من تقيمنا من عدة نواحٍ فأين مخافة الله والوازع الذاتي الإيماني اذ بتنا نهتم برقابتهم وكلامهم ورأيهم؟!

قد يجد القارئ أن ما نقوله لا يوافقه لكن هناك الكثير من القصص التاريخية والاجتماعية التي تبين أثر كلام الناس النفسي على بعض الأشخاص سواء سلبًا أو إيجابًا ومن هنا اقتضى منا أن نشير إلى إعمال العقل قبل أن نجعل كلام الناس هو المحرك والمدير لحياتنا العائلية أو الوظيفية أو الدراسية، في سيناريو فلسفي كتبه مارك توين بين شاب وشيخ يتناقشان حول الدافع الوحيد للإنسان، يقول فيه الشاب متعجبا: “وهل تعتقد أن رأي الناس باستطاعته أن يدفع برجل مسالم وجبان إلى أن…” فيجيبه الشيخ: “يذهب إلى الحرب؟ أجل، يمكن لرأي الناس أن يدفع ببعض الناس إلى فعل أي شيء” مما يثير هذا الجواب استغرابًا نزقًا يدفعه إلى المزيد من السؤال قائلًا: “لا أعتقد ذلك، أيعقل أن يدفع رأي الناس بإنسان مبدئي لفعل أمر غير لائق؟ أو يدفع بإنسان رحيم إلى ارتكاب عمل وحشي؟” كان جواب الشيخ بالإيجاب، مما دفعه أن يطلب من الشيخ أن يضرب له مثالًا.

يقول الشيخ مستعرضًا مثالًا: “كان ألكسندر هاملتون رجلًا مبدئيًا، ويعتبر المبارزة عملًا فاسدًا ومنافيًا لتعاليم الدين، لكنه تبارز نزولًا عند رأي الناس. كما يحب عائلته حبًا جمًا، بيد أنه وليحظى باستحسان الناس فارقها غدرًا وخاطر بحياته تاركًا أسرته بعده فريسة الأسى مدى الحياة، وكل ذلك كي يقف وقفة عز في عالم أخرق. وفقًا للمعايير السائدة بين الناس آنذاك لم يكن بمقدوره أن ينعم بالطمأنينة وقد التصقت به وصمة العار”.

من المثير للاستغراب أن يهب الله الإنسان عقلًا ليفكر به ويختار ما يحقق مسيرته الحياتية وفق متطلباته واحتياجاته، لنجده متوقفًا عند كلام الناس حين يرغب أن ينجز أو يحقق شيئًا مختلفًا لكنه كما أسلفنا لا يخرج عن إطار الشرع أو الاختيار الذاتي، نعم يمكن أن نقول إننا يمكن أن نهتم لمن كلامهم ينم عن حكمة عميقة ويخافون الله حين يتكلمون لكن ليس كل من ثرثر يمكن أن نجعل كلامه آية نلقيها على مسامع القاصي والداني.


error: المحتوي محمي