من ذاكرة البنّاء المقرقش في حلة محيش: لا نعرف الهندسة ونتقاضى 5 ريالات

عاملُ بناء بالفطرة.. لم يدرس فنون الهندسة المعمارية، ولَم يحمل شهادات علمية، لكنّ الطبيعة علمتهُ كيف يصوغها ويشكلها بين يديه.. فكان الطين المحروق أول شيءٍ داعبته أنامله وخضبت كفوفه، حتّى حرارة الشمس أكسبته لونًا ذهبيًا انتصف به نضجه على الرغم من أنه لم يتجاوز الثماني سنوات فقط، وبمهارة وحرفية نُضجت مع سنين عمره فتحول الطين بين يَدَيْه إلى بيوتٍ، ومساجد وصلت به إلى مدارس تقف اليوم شامخة تحييه.

وتصدر اسمه من بين أفضل عُمال بناء في قريته “حلة محيش”؛ فطلبته قرى أخرى للعمل في تشييد منازلها، لما تمتع به من سمعة طيبة، واحتراف متقن، فضلًا عن ما تمتع به من قوة جسدية ساعدته على التحمل…. إنه الحاج «علي بن يوسف المقرقش» أحد رواد مهنة البناء قديمًا تصاحبه «القطيف اليوم» في رحلته الأولى مع رائحة الطين المحروق، وصولًا إلى محطته الأخيرة إبان الطفرة المعمارية الحديثة.

الحاج علي الذي تحدث عن مرحلته الأولى وعشقه للعلم الذي حُرم منه لظروفٍ ألمت بوالده، وألحقته بالعمل مبكرًا لكسب لقمة عيشه، يقول: “من طين روحي كنتُ أعجنُ أحلامي الصغيرة، وأهرولُ ما بين بُرودة الظل، ودفء الشمس؛ لأني أدرك أن يدايّ دون سواها إن لم تنجز عملها اليوم لن تقبض أجرتها، لو لم أعمل صغيرًا لكنتُ شأن أقراني الصبية مكانهم بين خيرزان معلم القرآن، أو اللهو في الطرقات، وعلى الرغم من ذلك فقد تفوقتُ عليهم وكنتُ بارعًا في الحساب، وموسوعة في التاريخ، وعارفًا بأمور الدّين، وعاشقًا للشِعر، أحفظ القصيدة بمجرد سماعها من المرة الأولى”.

وعن قصة التحاقه بمهنة البناء يُضيف: “أشغلت في مهن متعددة ولكن بدأتُ في هذه المهنة وعمري يقارب الثمانية أعوام لدى السيد حسين البناي من أهالي حلة محيش، ولم تكن القطيف وقراها تعرف بعد اليد العاملة الأجنبية، وكان اعتمادها على الشبان أقوياء البنية وموفوري الصحة الذين كانوا يختارون بعناية فائقة”.

امتحان تطبيقي
ويشير إلى أنّ طالب العمل لا يباشر عمله في البناء إلا بعد الخضوع لامتحانٍ تطبيقي أمام ربّ العمل، والامتحان يكون عبارة عن بناء قطعة أرض صغيرة من الطين أو الجص، وإذا أحسن بناءها انضم إلى فريق عمله، بل إنه يشير إليه في أغلب الأحيان بأنه أفضل عامل بناء لديه إذا طلب منه عاملًا لتشييد منزله أو دكانه بشكلٍ انفرادي، وأنا واحدٌ من الذين استقليتُ في عملي وكنتُ الأكثر طلبًا بين زملائي.

مواد بناء
ويُبين أن مواد البناء كانت تستمدُ من الخامات المتوفرة في البيئة ووفقًا لطبيعتها، وهو ما يجعلها قادرة على التكيف مع البيئة والحفاظ عليها، وأهمها «النخيل»، و«الطين»، و«صخور المرجان»، وهي من أهم ملامح العمران التقليديّ في القطيف.

ويتابع الحاج علي: بُنيت المنازل آنذاك بالطين المستخرج من البَحْر، أو الجص المستخرج من الوشب، وكان الطين أو الوشب يُجففان تحت أشعة الشمس، وإذا جف تمامًا وضع فوقه جذوع النخل المقطعة وتحرق معًا وتسمى بعد الحرق “جص خكـري”، أو “جص عربي” الناتج عن حرق الوشب مع جذوع النخيل، ويترك هذا الخليط المحروق ليومين ثم يدق بلوحٍ خشبي قوي وبعدها يقوم “الحمّارة” وعددهم يتراوح ما بين 3 إلى 4 أشخاص، ويضعونها في “مراحل” ويرسمونها إلى المكان المراد تشييده، وتصل المراحل عند عامل يسمى صاحب “الغيلة”؛ هكذا كان يُسمى لأنه كان يمزج الخليط المحروق بالماء في “غيلة” أي حفرة صنعها من الخليط ذاته، ويحملها لعمال البناء، وعادة ما يقوم صاحب البيت بجلب “الصار” – أي عدة ومواد البناء – إلى العمال.

الصخور المرجانية
ويوضح بقوله: ما أن يصل الطين المحروق إلى المكان المراد تشييده يجمع عمال آخرون صخور “المرجان” الدائرية الشكل من قاع البحر، وهي أصلًا بيوت ذلك الحيوان المائي أو درعه، ويحضرونه إلى الساحل عن طريق “الحمَير”، ثم للمكان، ويُعرّض لأشعة الشمس ليفقد المياه المتشربة بين خلاياه، وحينما يجف يصبح صخرًا خفيف الوزن يمكن تشكيله وتهيئته بالطريقة المناسبة وفي حجم واحد، يُصف بشكلٍ منتظم وفوق بَعْضَه حتى يكتمل البيت تمامًا، ثم يبدأ بعملية المسح بـ”الجص الخكري” أو “الجص العربي”.

أصل الصخر
وبيّن أنّ الصخور المرجانية التي تكثر في المياه الضحلة على امتداد سواحل الخليج العربي يكونها كائن مائي بسيط يبني مأواه اعتمادًا على العناصر التي يتكون منها ماء البحر ومنها الكلس فيبني هذا الكائن مسكنه ليحميه من المخاطر ولتوفير بيئة ملائمة للعيش.

أنواع السقوف
ويواصل قائلًا: “عندما ينتهي بناء السور يبدأ في إنشاء سقوف المنازل، والتي كانت تُبنى من جذوع نخيل الخنيزي عادة، لما تمتاز به من قوة وصلابة، وتوضع كدعائم للسقف، وترص على مسافات متساوية لتدعيمه، ويعلوها طبقات من «جريد النخيل»، وحصير من السعف، إلى أن جاء «الشندل» أو «الدنشل»، وهو نوع خاص من الخشب استخدم في بناء الأسقف، ويوضع بشكلٍ عرضي ويوضع عليه بعد ذلك (البازجيل) وهو نوع من سلايت الخيزران، والدنشل أو البازجيل يؤتى بهما من الهند، كما جاء نوع يسمى “المنقور” وهو أشبه بالبساط يفرش على السقف مصنوع من القصب ويَصْب عليه الطين المحروق.

مميزات الصخور
ويقول: إنّ تلك البيوت الطينية المكونة من صخور المرجان، لها مزية فريدة، فهي باردة في فصل الصيف ودافئة في فصول الشتاء، كما أنها مقاومة وأقوى من الأسمنت الذي يتشقق مع مرور الوقت، مشيرًا إلى أن أصحاب بيوت المرجان ما زالوا يصرون على بقاء بيوتهم طيلة كل هذه العقود من الزمن وهو دليل على أنها الأفضل في التحمل والبقاء.

عدة البناء
في صُرة من الخيش يضع عامل البناء في داخلها أهم عتاده وعدته المكونة من مطرقة، وقفشة، والليان، والصخين، والبل الذي يحدد مدى استقامة الجدار، وقبْان.

عصر الأسمنت
ويوضح الحاج علي أنّ الأسمنت السويدي والمعروف باسم “سويدل” عندما غزا الأسواق كان سعره مرتفعًا جدًا ووصل إلى 20 ريالًا للكيس الواحد، واعتمدته الأسر الميسورة في بناء منازلهم بديلًا عن الطين والجص، وبهذا أنهى عصر المنازل الطينية، لافتًا إلى أن النَّاس أقبلت على شراء الأسمنت لسهولة عجنه بالماء وجهوزيته.

وبناء بيوت المرجان لم يتطلب إجراءات روتينية كبيرة في ذلك الوقت، فالأمر لا يتطلب عناء كبيرًا فليس هناك أوراق ولا تصاريح بناء ولا استشارة هندسية ولا مقاول كما يقول الحاج علي؛ فالعملية تبدأ بزيارة للأرض المراد تشييدها، وعامل البناء كان هو المهندس المعماري الذي يأخذ مقاسات المنزل المراد تشييده عن طريق حبل مصنوع من ليف النخل، يفرشه على تراب الأرض، ويخمن أماكن الغرب، والباب الرئيسي وما إذا كان البيت سيتكون من دور أرضي وآخر علوي وأماكن الشبابيك، ويستغرق بناء المنزل عادة شهرًا أو أقل.

أجرة العامل
ويضيّف الحاج أن العامل بعد أن يأخذ مقاسات الأبواب والنوافذ يذهب بها صاحب المنزل إلى النجار مباشرةً، فمقاس الباب عادة يكون مترين ارتفاعًا ومترًا للعرض، والنوافذ مترًا للعرض ومترًا آخر للطول، مشيرًا إلى أن اجرة العامل اليومية هي خمس ريالات يبدأ عمله منذ طلوع الشمس حتى مغيبها، وعلى صاحب المنزل المشيد التكفل بطعام عمال البناء وشرابهم، وقهوتهم وتمرهم، وتتنوع أصناف الطعام حسب الحالة الاجتماعية والقدرة المالية لصاحب المنزل.

ويذكر أنه شارك في بناء مسجد الشيخ عقيل بحلة محيش، ومسجد المعبّر كذلك، فضلًا عن بناء الحُسينيات المعروفة في القرية كحسينية الفريج، والعوامي، مبينًا أن العمال كانوا يطوفون بعدتهم وعتادهم إلى باقي قرى القطيف التي لا يوجد بها عمال بناء؛ كالجارودية والخويلدية التي كانت من أهم القرى التي اشتغلوا في بناء منازلها.

مواسم البناء
الحاج علي يوضح أنَّ للبناء مواسم يكثر عليها الطلب؛ خاصة فصل الصيف الذي تقل فيه الأمطار، مضيفًا أنه كان العمال في الشتاء يقتصر عملهم في العادة على “تنـعيل الدور” أي إعادة صب الأسمنت على السطوح حتى لا تخر السقوف من غزارة الأمطار، وكانت أجرتها تقدر بـ25 ريالًا.

لقم لقم
كانت هذه العبارة اختصارًا لجملة تنبيهية معناها: “تفضل واستلم خليط الطين المحروق من يدي”، وكان العمال يقولونها باستمرار فيما بينهم.

عصر البناء المسلح
البناء كان سهلًا يسير في ذلك الزمان كما يقول الحاج علي، فلا رخص بناء ولا تعقيدات التشييد ولا ضوابط في البناء، إلى أن بدأ صندوق التنمية العقاري نشاطه عام 1395هـ، والذي ألزم بدوره صاحب القرض بتقديم رخصة بناء وتشييد، وانتهى بهذا التاريخ عصر البناء الحر، وبدأ عصر المنازل المسلحة، واستقدام المهندسين المعماريين وعمال البناء من دول شتى، وفعلًا أسست العمارة الحقيقية في القطيف المتمثّلة في المستشفيات والمدارس وبعض المؤسسات الحكومية التي كان يتطلب بناؤها خريطة ومهندسًا معماريًا.

ويزيد: بدأ العمال القطيفيون ينسحبون شيئًا فشيء من مهنة أجدادهم ويتوجهون إلى مهن أخرى، وذلك لأن البناء الجديد لم يعرفوه ولم تألفه أيديهم وسواعدهم إلا القلة النادرة التي اشتغلت مع الشركات التي أسست فيما بعد والتي تضم خليطًا من السعوديين والأجانب، وكنتُ واحدًا من هؤلاء الذين تم اختيارهم للعمل في شركات المقاولات والبناء.

عصر الشركات
انضممتُ إلى فريق عمل شركة “بن حمد”، والتي كانت مختصة في بناء المدارس في تلك الحقبة الزمنية وتم اختياري بعد اجتيازي الفحوصات الطبية في مستشفى “أنور عبيد” في مدينة الخبر، وحملتُ أوراقي “الحمراء” – رخصة من مكتب العمل -، لمباشرة عملي الجديد في الشركة كمساعد بناء.

ولفت إلى أن الشركة كانت تضم في فريقها عددًا كبيرًا من العمالة الوافدة، منها المصرية والباكستانية واللبنانية واليمنية إلى جانب السعوديين الذين اجتازوا الاختبار الطبّي، والبالغ عددهم ألف عامل ما بين بناء ومساعد بناء.

ويقول: “العمل مع الشركة كان منظمًا فهو يبدأ في وقت مبكر في الصباح وينتهي قرابة العصر أي بمعدل ثماني ساعات متواصلة يتخللها فسحة واستراحة للصلاة والأكل، كما كانت تصرف رواتبنا شهريًا وبانتظام، وتبلغ أجرة العامل السعودي 300 ريال أي ما يعادل 6000 آلاف ريال حاليًا، ومازالت بنايات المدارس التي شيدناها باقية لليوم؛ كالمدرسة الأولى الابتدائية والمتوسطة بسيهات والمعروفة بـ”قرين”، ومدرسة في صفوى، ومدرستين في الخبر وواحدة في بقيق، وهذه آخر مدرسة شاركتُ في تشييدها إلى أن تركت مهنة البناء إلى مهن أخرى متعددة كالزراعة والسباكة إلى أن استقريتُ في مهنة حكومية”.

أحد أساتذة البناء يمارس مهنته في جزيرة تاروت

واحد من البيوت المبنية على الطراز القديم في القطيف– المصدر: مقال للكاتب عبدالكريم المرزوق


error: المحتوي محمي