جرة قلم

ما بين صور جميلة تختزلها عقولنا للماضي الجميل الذي عاصرناه وعشناه في طفولتنا البريئة الحلوة، وبين واقع حاضر يعتصرنا ألمًا وصدمات لا تتوقف نجد تباينًا مذهلًا لا يصدق.

ونتساءل بمرارة: هل هذه الوجوه والمشاعر والكلمات كانت مجرد أقنعة يتلظى خلفها البعض، أم أنها كانت حقيقة ولكن – للأسف – النفوس تغيرت ولم تعد تحمل نقاء وطيبة وحب الأمس؟

ما كنا نراه من تبادل للتحايا ومشاعر الحب في محيطنا الأسري والاجتماعي تبدد، كنا نظن واهمين أن الكل يحمل مشاعر صادقة تجاه الآخر، فيحب له الخير ويتألم لمصيبته وهمه ويواسيه فيها، لم تكن إلا ضبابًا تلاشى، الواقع الذي نراه اليوم – لما كبرنا – يختلف بنحو مختلف، فتلك الابتسامة على محيا البعض باهتة أو صفراء (ماكرة)، ولم يعد التواصل الأسري والاجتماعي إلا على نطاق ضيق بمقدار الضرورة والمجاملات الجامدة، والصورة الحقيقية لمن نعيش معهم مخيفة إذ هناك من يتمنى لك الأذى ويضمر لك السوء ويتشفى بالشدة والأزمة التي تمر بها بدلًا من مشاطرتك الألم كما كان الماضي الجميل، حتى الصداقة الرائعة عبثوا بكل تفاصيلها وأبعادها فصارت الطعنة النافذة لا تصدر إلا من صديق أظهر المحبة، فأين ذاك الصديق الذي يخاف عليك كنفسه تمامًا؟ تبخرت تلك المشاعر الرائعة!
والعلاقات الاجتماعية – بعد حفظ شخصك حاضرًا وغائبًا – تسيد المشهد فيها الفتن والحديث بسوء والغيبة والتهكم بلا حدود، فبدافع التسلية أو التسلق على الأظهر ووطء الرؤوس أصبح الآخر مستباحا في خصوصياته ومواقفه وكأنها حرب بلا هوادة!

والصور الجميلة للعلاقات الزوجية المتألقة والتي يبقى وهجها حتى مع تقدم السن، انقلبت الصورة فيها وبدأنا نسمع عن العنف بكل أشكاله، والطلاق بعد عشرة جميلة امتدت لسنوات تنهى لأسباب غير منطقية، فهذه الرابطة المقدسة في غاياتها والمؤمل منها لم تعد ذات قيمة فتنهى بورقة وجرة قلم!

من استذكر الأمس خاف من اليوم وخالطته الهواجس أكثر إذا نظر إلى المستقبل المجهول، إذ يجري في عقله معادلة رياضية بسيطة فحواها: اليوم مخيف في أحداثه والبعض يحملون مشاعر زائفة والعلاقات تحيا وسط مصلحية منقطعة النظير، هذا مع وجود بقايا قيم وإنسانية جميلة لا يخفى ضياؤها هنا أو هناك، فكيف سيكون مشهد الأحداث والعلاقات والتواصل مستقبلًا؟

يغمض عينيه ويسبح في تيار الخيال عابثًا في رقعة الوقائع بحسب ما يتصوره، فيفزع مما يصل إليه من مشهد مخيف يحمل بصمة المسخ للإنسان العظيم في توازنه الفكري والجميل في طيبته وعواطفه وشفافيته، وترسخ في الذاكرة صورة للوحش الخارج من قمقمه، فإلى أين نحن ماضون بكل هذا التغيير للتركيبة الروحية لنا؟
وإلى أين نحن سائرون بكل هذا الاستخفاف بالآخر واتخاذه ألعوبة تتناقله أنامل خشنة وقلوب قاسية؟

الحقيقية أن الجمال والخيرية لهما حضورهما في كل زمان ومكان، وتشاطرها العدوانية والشرور والأحقاد والانتهازية الحضور، مع تغاير النسبة ارتفاعًا وانخفاضًا لهذه الجهة أو تلك بحسب ترسخ الثقافة والتربية فكرًا وسلوكًا، يشرف عليه ويتابعه الحكماء والنخب الاجتماعية، فلا داعي للتوجس وحمل علامات اليأس والتحطم النفسي، بل علينا التعويل على شعلة الأمل والهمة العالية لتحقيق الحياة الصادقة ولو بنسب قليلة، فتغيير الناس كافة ليس بملكنا وقدرتنا ولكن باستطاعتنا ممارسة التغيير الإيجابي بنحو مستمر في أنفسنا ومحيطنا الصغير حتى يكبر.


error: المحتوي محمي