وداعًا يا عباس

أتيت إلى مدرسة الربيعية الابتدائية على مشارف نهاية القرن العشرين، تعرفت على كل الوجوه الجديدة من كادر إداري ومدرسين، بالإضافة للأخوة المستخدمين الذين كان عددهم ثلاثة، وكانوا متفاوتين في الأعمار والطباع، أحدهم يدعى عباس القديحي؛ هذا الرجل اقترب مني أكثر مع مرور الوقت، فأخذ يفضفض كثيرًا ويخوض في الخاص والعام، وكلما استرسل في البوح استأذنني لأخذ سيجارة خارج أسوار المدرسة، وكنت أرقبه ينفث الدخان من أنفه وفمه رافعًا رأسه للأعلى وهو يشكو الزمان وأهله.

سيماء وجه عباس يتبدل حسب مزاج من يجالسه، إن أردت منه طربًا فهو يطربك بالأغاني الشعبية من طاهر الأحسائي وعيسى فهو حاضر باللحن والكلمة، وقليل ما يذكر فحش العبارة، وإن طلبت منه أن يواسيك حزنًا ولوعة أنشد لك أبياتًا من عيون الشعر الحسيني، فيأتيك بالدارج والفصيح، قريحته مفطورة بحب آل البيت، عشق مغروس في وجدانه بتلقائية المتيمين، وتحسبه أنه ملازم للرواديد والخطباء، وترجم هذا الولاء الحسيني بوضع عادة أسبوعية؛ وهي قراءة تعطر مجلسه الصغير الكبير بذكر أبي عبدالله الحسين.

كيف يتمثل هذا الحب الحسيني في شخص يعيش حد الكفاف، وكيف يترجم لشخص تراه بسيطًا في هندامه، متجملًا بابتسامته، رافعًا راية حيدرة في مأتمه.

حين أقابل عباس صباح كل يوم دراسي وبدلًا من أن أقابله بتحية الصباح أحييه بـ: “أبو فاضل عمدها” يجاوبني: “وبيرق الليمة ولما وصلت وقفت ورى الخيمة تصب الدموع والونات تخفيها…..”، وما بين الحزن والفرح كان عباس مولعًا بالتراث الشعبي يسمعني الألغاز، والحزاوي، ويغرد بالمتشابهات من العبارات الصعبة التي يتعثر اللسان في قولها، يتحداني بالنطق بها، وبالفعل أنسحب من براعة لسانه فتمتلئ أسارير وجهه ضحكًا وقهقهة تسمعها الجدران الصماء، وحين أساله عن النخل والزرع والطيور المهاجرة؛ يجيبني بلغة العارف والفاهم لتلك البيئة التي جعلته طيبًا ومكافحًا في السراء والضراء.

طوال عشرين عامًا ملازمتي لعباس، أخبرني عن تبادلات المواسم وتغيرات الأمكنة والنفوس، لكن نفس عباس أبية في كثير من المواقف؛ فذات مرة صرخت في وجهه بسبب موقف عابر خاص بإحدى مهام المدرسة، ولكني بعد ساعة أخذته بالأحضان، ترقرقت عيناه بالتماعة المحب فأدركت حينها أن عباس يحمل في دواخله براءة البسطاء وروح طيبة الأولين، كم مرة أشبعني ضحكًا وأمتعني بحلو الأحاديث، من ترنيمة فرح وحزن نغم، كم تأثرت على قرار نقله مع مطلع هذا العام الدراسي حيث ارتحل عنا إلى مدرسة أخرى، ففقدنا روح النكتة وبانتقاله فقدت حكاياته الممتعة، لكن بقيت روح عباس تحوم في أجواء المدرسة، حين يقابلني في الطرقات يمازحني بحلو الكلام كما العادة، ويرميني بالمصطلحات العتيقة المغبرة التي عفى عليها الزمن، لكن الزمن لم يرحم عباس، حينما أتذكر الحمول الثقال التي يرفعها عباس على ظهره، ويصعد بها طوابق المدرسة، وأقول له: “قواك الله يا أبا فاضل”، يرد بكلمة: “عادي يا أستاذ حملت على ظهري هموم الدنيا”!

مع انتقال عباس إلى مدرسة أخرى لم يقطع تواصله مع مدرستنا لأن أصغر أبنائه يدرس معنا في الصف الأول ابتدائي، وكان يقول لي: “أبو محمد، الله الله في كرار، اهتم فيه، لا تنساه إذا احتاج أي شيء”، والمدهش أنه كان يكررها في كل مرة، فقلت له: “لماذا هذا الحرص الشديد؟ أعرف أنه آخر العنقود لكن أحس أنك خائفًا عليه أكثر من اللازم بل أكثر من باقي أخوته” فرد بصوته المبحوح ورأسه المخضب بياضًا: “تعرف من نقلت إلى مدرسة أخرى، وبدأت أخاف عليه ولأن صحته ليست على ما يرام فهو يخضع للعلاج من وقت لآخر”، تركني عباس وهو يسعل سعلات شديدة، وهذه كانت آخر اللقطات التي أرى فيها وجه عباس موجوعًا بهذه الطريقة فلم يكن كالسابق، ملامحه تدعو للشفقة، موقف حدث قبل اقتراب موعد الامتحانات للنصف الأول من هذا العام وما أن حطت رجلي بلاد الأندلس صباح الجمعة أي قبل يومين، وقبل أن أغادر أرض المطار، فتحت جوالي عبثًا، وقبل أن أرد أنفاسي المتعبة من ضجيج الطائرة وقلة النوم، وإذا برأسي يضج بالخبر المفاجئ عباس القديحي في ذمة الله، صرخ قلبي:

يا إلهي ما هذا الخبر!
ضج رأسي بكثرة ما قرأت من تعزيات مرسلة في قروب المدرسين، وقتئذ انتابتني وحشة، وتسمرت في مكاني أتأمل صور عباس وهو بإحرام الحج والعمرة، سألت نفسي: هل لحفوك بهذا الوشاح الأبيض، يا عباس رحلت عن دنيانا وقلبك أبيض.

يا ترى لو كنت أحد الوجهاء لتناثرت الكلمات حول رحيلك من كل حدب وصوب، قدرك وقدر الراحلين من أمثالك الصمت.

سيجازيك ربك يا عباس خيرًا على قدر ألمك الموجوع في سبيل سعيك المستمر في توفير لقمة العيش وسيعطيك ربك مغفرة ورحمة نظير ولائك النقي لآل البيت.

عباس القديحي هل أقول لك وداعًا؟ أم أمنّي النفس في انتظار رسائلك اليومية؟ كيف لي أن أمسح رقمك؟! وأي عين سأنظر بها عين ابنك اليتيم.

يا عباس رحلت عنا فاسترحت من هم هذه الدنيا، كلنا يتامى في هذه الحياة الفانية، عباس القديحي وداعًا.

عبدالعظيم شلي
من مدينة طليطلة


error: المحتوي محمي