رحلتنا في سنة

نَحْنُ في الشرقِ وعلى أنغامِ ميلادِ محمد (ص) وميلادِ عيسى (ع) كبرنا سنةً هجريةً قبلَ أشهر وسنةً ميلاديةً هذه الأيام فكأنما نعيش عمرينِ أو همين، من أي زاويةٍ نظرنا. نتبادلُ التهاني على أننا كبرنا ومن المبهجِ أننا بقينا أحياءَ نسمعُ ونرى خطى الذين عبروا الشكوكَ والظنونَ والأوهامَ إلى الحقيقةِ واليقين. في مثلِ هذهِ الأيام من كُلِّ سنةٍ تصطف أمامنا الذكريات، ونرى ملامحَها في رحلةِ الثلاثمائة وخمسة وستينَ يومًا، بعضها نقولُ: آه لو تعود! وبعضها نغمض أعيننا عنها رغبةً ألا نراها، هكذا دارت وهكذا مرت أيامُ رحلتنا أنا وأنتَ، في وَرْدٍ وفي بَارودْ.

كم كان يبهجني في كانون أن أكتبَ لك صفحاتٍ بيضاءَ ليسَ فيها إلا التهاني والأماني، لكن رفات الراقدين والذين ما اجتمعوا بعد لقاءِ ليلةٍ مقمرةٍ على شرابٍ أبدًا ذكرتني بأن ليس كل الصفحاتِ نستطيع أن نعبثَ فيها وأنَّ بعضَ الدفاترِ فيها رسومُ وكتاباتُ الأيام. وأن الأيامَ فيها سهامٌ تطيش، كل يومٍ تصيب هدفاً! كل الصلاةِ والرجاء أن تعيد إليك الساعةُ دفاترَ السنةِ وفيها العلامة كاملةً دون نقصانٍ وأن تأتي السنةُ القادمة وأنت واقفٌ تنتظرها وتهزأ من كل السهام، نحنُ أناسٌ نحب بهجةَ الحياةِ ونستحقها.

دفاتر العمر تستحضر صورةَ الأستاذ الذي كان يأتينا كُلَّ صباحٍ في الصفوفِ الأولى من المدرسة، في يده العصا، ويقول: هاتوا دفاتركم لقد أعطيتكم امتحاناً والآنَ أعطيكم الدرجات؟ ترتعش أيدينا ونعطيه الدفتر، بعضنا يعود إليه الدفترُ وعليه دائرة زرقاء فيها كسرٌ عشري ناقص أو كامل ومنا من يعود إليهِ الدفترُ وفيه دائرة حمراء، بكينا عندما كنا صغارًا من الدوائرِ الحمراء ومن خوفِ العقاب والآن تمر السنون أثمنَ من كُلِّ شيء وعلينا النظرَ في حسابها كل يوم. كبر العربيُّ وكبر الهم معه، الدنيا والآخرة، واتسع الخرقُ على الراقع!

يباركُ اللهُ كُلَّ جهدٍ نبيلٍ لا يستطيع البشر أن يكملوه، يمدهم بالطاقةِ والقوة دونَ أن يرون وكأنما يقول لهم: ضعوا أيديكم وأنا أدحرج الصخرةَ لكم دون أن تقتلكم، ونحن نبحر والله يأخذُ سفننا نحو المرسى، فهلا وضعنا أيدينا فوقِ الصخرةِ وأبحرنا نحو المرسى وقلنا: يا رب! أنا من القائلينَ: إنَّ من له هَدَفٌ في الحياةِ لا يموت ومن يشد الرحالَ نحوَ الجَمَالِ في الليلِ يعانقهُ في الصباح، هل تواعدني أن يكونَ لك هدفٌ وأنا أكتبُ لك عندما يأتي كانونُ الأول من العامِ القادم؟

في أنظمةِ الاتصالاتِ هناكَ حدثٌ وضجيج. الضجيجُ هو خطأٌ أو اضطرابٌ عشوائيٌ غير مرغوبٍ فيه في المعلومةِ المفيدةِ التي تحملها الإشارةُ الكهربية من محصلةِ الطاقةِ غير المرغوبٍ فيها والتي تنتج من مصادرَ طبيعيةٍ أو بشرية، هكذا في حياتنا أحداثٌ وضجيج والضجيجُ يحاول صرفَ أنظارنا عن نغمةِ واقعِ الحدثِ والتركيز على معنى الحياةِ وأسرار نفوسنا. لنعش الحدثَ والواقع كما هو ونستمتع بالضجيجِ في ضحكاتِ أبنائنا، وصرير أقلامنا، واحتكاكَ أفكارنا، وأصواتَ معاول البناء والرقي وموسيقى الكونِ والطبيعة، التي ليس أروعَ منها إلا من أعطانا إياها.

ليس لنا البكاء على الماضي ولكن علينا زرع بذور المستقبل، صبياناً وصبايا، وعندما تشرق شمس الغد نحن واقفون ننتظرها نطلب دفءَ الروحِ والجسد، نقول: نحنُ هنا أيها الدنيا لن نموت! لِكِّلِ من مشى الطريقَ ولم يستطع الوصولَ إلى هنا كُلَّ التحايا!


error: المحتوي محمي