خلق اللهُ الإنسانَ في أبهى صورِ الجمال وكأنه يقولُ له: أنتَ أكرم من كثيرٍ ممن خلقت، الأرضُ لكَ والسماءُ لك والهواء لك. أخلفني في الكونِ واعمرهْ. أعطيتكَ من العقلَ والقوةَ والمنطق ما لم أعطه غيرك وأرسلتُ لكَ رسلًا وكتبًا. إن عمرتَ الكونَ هو لك وإن فشلت وعجزت جئتُ بغيرك يكمل المسيرة {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.
نظرَ الإنسانُ للأجسامِ الموجودة التي يمكن أن يرتقيها نحو القمم، فرأى العجلةَ والسلالم؛ فماذا اختار؟ منذ أن خلقَ اللهُ البشرَ سادت أعراقٌ وأمَمْ ومجتمعات، وشكلت حضاراتٍ حكمت ونَظَّرت وعملت لبقاءِ حضارتها في السلمِ وفي الحرب، ومع كل الاندفاعاتِ ذهبت تلك الحضاراتُ وبقيت في كتبِ التاريخِ وجاء غيرها، إصرارٌ على تبادلِ الأدوارِ في كل شؤونِ الحياة وهناكَ عجلةٌ تدور بحيث لا يبقى الدهرُ على حال! العجلةُ لها قطرٌ يكبر ويصغر في حجمِ الأممِ والتاريخ ولكنه يدور بحيث النقطةُ التي في الأعلى تنحدرُ نحو الأسفلِ بفعلِ القدم والجاذبية والنقطة في الأسفل تندفع للأعلى لتحل محلها {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
إذًا؛ كيف تدوم الحضاراتُ أطول مدةٍ وحتى إلى ما لا نهاية إن أمكنَ في العجلة؟ كل عجلةٍ تنتهي لها مركزٌ يتناهى في نقطةٍ واحدةٍ متناهية، تلتقي فيها أنصافُ الأقطار، بحيث إننا تقريبًا لا نراها تدور وهذه النقطة هي الإنسان الذي شكلَ الحضارةَ ذاتها ويمدها بوقودِ الحياة، فإذا ما جاءت حضارةٌ جعلت هذا الإنسانَ مركزَ اهتمامها فسوف يُكتب لها البقاءُ والخلود، وحتى يأتيَ ذلكَ اليومُ الذي تتكامل فيه النظرةُ نحو الإنسانِ وتنميته تبقى العجلةُ في دوران، تأتي معها حضاراتٌ وأممٌ بعد أن تذهب أخرى.
من خسارةِ الإنسان والحضارات أن دامَ اهتمامها بالإنسانِ فتراتٍ قصيرة ثم تحول إلى اهتمامٍ بالمسحاةِ والطوبِ والآلة، ومع قصر المدة، أنتجت بعضُ الحضاراتِ والأمم ما نفع الإنسانَ في نقلاتٍ نوعيةٍ من حياةِ شظفِ العيشِ إلى رغده في الطبِ والمواصلاتِ والعمران والعلوم في مجملها، مما انعكس في جودةِ حياة الفرد والمجتمع.
من المنظور الآخر؛ لو ارتاحت الأممُ لرؤيةِ تقدمها في اختيار دعساتِ السلم، ترتقيه ويتكامل صعودها، تستريح في محطاته متى ما تعبت ثم تعاود الصعود؛َ لكان أجدى لها من العجلة التي في هبوطها ينمحي كل ما كتبته وينهدم كل ما بنته. وكان من المبهج أن تبني الحضاراتُ كلها في طريقةٍ تكاملية يكمل بعضها البعضَ ويمشي حيث وقف من قبله، لا في طريقةٍ تنافسية، يصر فيها البشرُ على احتكارِ حضارتهم دون سواهم ويهدمون ما يبني غيرهم.
يدرس الطلابُ بعد مادةِ الجبر علمَ حسابِ “التفاضل والتكامل”، وهو فرعٌ من فروعِ الرياضياتِ يدرس النهاياتِ والاشتقاق والتكامل والمتسلسلات اللانهائية، وهو علمٌ يستخدم لدراسةِ التغير في الدوال وتحليلها. ربما ليس من روابطَ بين هذا العلم والحضارات إلا في ذهني الذي يربط الدوالَ بأسباب تغيرها ونمط التغيير الذي لا يستثني التاريخَ ومنجزاته، بما أن فيه كثيرًا من المتغيرات، الذي لو اختارت البشريةُ فيه الشق الأول “التكامل” في المنجزاتِ دون “التفاضل”؛ لدام لها ما أرادت!