ثقافة قلم وخواطر شجن 3-6

بلهفة السائلين.. تركت الإجابة لقلمي يرحل بعيدًا بعيدًا، يسبر أيام خلت، يسترجع أوقات مضت، يفتش عن مواقف منزوية، يبحث عن صور ومشاهد لهلال الأمس، يتقفى أثر والده الذي عاش بين الدروب الندية، ويتتبع خطوات أحد أخوته العابر بين الظلال المنسية، ومضات تبرق كلمح البصر، ملامح ضبابية تغيب وتحضر، اهتزازات أطياف على جدار الزمن تلوح كقوس مطر، فيض مشاعر تنهمر وأحاسيس وجد تعزفان لحن الوصال، وتتعانقان بامتزاج حزن وفرح، وتتعطران بنفحات مسك وطيبة، وتتريضان متعة وحبورًا بين سطور هلال الخصبة، حدائق غناء هي مقالاته وأبحاثه باللغتين العربية والإنجليزية المليئتان ثمرًا ووردًا.

إنجازات تقول: “هاؤم اقرؤوا كتَابِيه”، نفحات تعبق من طلع النخل ومن طين الأرض ورائحة البحر، ستدلنا من يكون هلال الوحيد، وقبل التدوين لكل ما استجمعه القلم، طرقت في البدء ذاكرة الأخ (محمد الصغير) رفيق الطفولة وريعان الصبا، ذي المخزون الذكرياتي، وهو واحد من الذين استأنس بذاكرتهم الفذة، في مجالات عدة، وحين تغيب عن بالي صور من الماضي التجئ إليه، وكما العادة أطلب منه فيلبي في الحال النداء، أخبرته أن يزودني بكل ما يعرفه عن شخصية هلال الوحيد فأرسل لي مشكورًا عبر (الواتساب) رسمًا لـ(بوروتريه) بخطوط سريعة، وفلاشات ذكرى أقدمها دون حذف أو إضافة:

“أهلًا بالأستاذ
ما قلنا ينتابنا من حسك همسه!
كل الذي أعرفه عن هلال الوحيد أنه كان زميلًا لي في صف الثالث الابتدائي. هو واحد من ستة أخوة، أكبرهم المُلا محمد أبو ياسر وأصغرهم هاني، أحد أخوانه توفي صعقاً بالكهرباء قبل 44 سنة. هلال كان طالباً مجتهداً وخلوقاً، المفروض أن أماشيه في جميع مراحل الدراسة، إلا أنني تأخرت عنه بسبب عدم إكمالي صف ثالث ابتدائي. لم أره عابساً أو مقطب الوجه قط. متواضع مع الكبير والصغير. آخر عهدي به في الدراسة، في متوسطة تاروت، هو في صف ثالث وأنا في الصف الثاني، كان ذلك عام 76م، بعدها انتقل إلى ثانوية القطيف.

وغاب عني، لم ألتق به سنين طويلة، ربما تجاوزت الثلاثين عاما، إلى أن التقيت به قبل فترة ليست بالقصيرة في إحدى المناسبات ولا يزال ذلك الرجل الذي عهدته هو ذاته، لم تتغير طباعه الطيبة؛ دماثة الخلق، الابتسامة على المحيا، التواضع، إلخ، إلخ. أما عن الوظيفة أو المهنة التي امتهنها فلا علم لدي.

هذا كل ما أعرفه عن الزميل هلال للأسف.

بالمناسبة ما الذي ذكرك به؟”.

ستعرف فيما بعد يا أباحسن، ولا بأس أن أفصح لك عن عنوان عام، سأكتب خاطرة مطولة في حق هذا الإنسان النبيل، وماذا عندك بعد؟ أما في البال شيء آخر؟ أضاف الصغير مشهدًا في اليوم التالي عن هلال وترجاني ألا أنشره!

وقلت له لماذا؟ وبعد حوار مطول أجبته، اقرأ كتابات هلال المنشورة في «القطيف اليوم» وستعرف أنه كان عصاميًا في الصغر، ومكافحًا لأبعد حد، وهو يفخر بذلك، كلامك عن هلال هو شهادة مستحقة وكلمة حق في شخصه، بل تأكيد لما دونه من سطور وأيضًا إشارتك تنطبق على الغالبية العظمى من أبناء القطيف في ذاك الزمن حيث العمل كان ديدنهم وهم على مقاعد الدراسة فلم يركنوا للراحة والدعة.

وبعد مجادلة مطولة خيرني الصغير بعدم النشر وإذا سوف يتم بأن أمسح اسمه! إلحاحي المتواصل بتوضيح الأمر أسفر عن قبول الصغير ولكن على مضض حيث قال:
“أهلًا بالأستاذ الغالي.. هذا كل ما لدي عن هلال، وكما تعلم بعد المسافة بين “الديرة والدشة” جعل المعرفة الشخصية به تكاد تكون محدودة جدًا. عندي ما أذكره ولكن أرجو ألا تذكر هذا الكلام في مقالتك، رغم أنها ليست معيبة ولكن ربما صاحبها لا يحبذ أن تعرف من قبل الآخرين. من المعلوم أيام زمان كان بعض الشباب يقضون عطلة الصيف باللعب واللهو مثلي أنا، والبعض الآخر بالالتحاق بمعلمي القرآن، وبعضهم بمذاكرة دروس الموسم الدراسي المقبل، والآخر يلجأ للعمل الصيفي. وبما أن البلد وقتها تعتبر شبه مقطوعة مواصلاتيًا عن باقي المناطق، فكان العمل الصيفي في نطاق البلد هو الأجدى والأفضل إلا ما ندر.

حال هلال كحال الكثير من الأولاد الذين فضلوا العمل الصيفي على باقي الأنشطة الأخرى، فقد عمل هلال “صبيًا” عند أبا حسن الزاير في ملحمته الكائنة في چبرة تاروت مقابل مسجد أبو عزيز، كنا نفرح لمقدمه أوقات الضحى وهو حامل اللحم إلى بيوتات الديرة ومن ضمنها منزلنا، كنا نراه صباحًا في السوق والعصر يرعى الأغنام، يخرجها من “الزريبة” للمرعى لتأكل العشب المترامي بين النخيل و”المساقي” كم كان جبارًا، يكدح يومًا كاملًا، مقابل أجر زهيد ريال واحد فقط، ذات مرة سأله أخي مهدي لماذا تعمل؟ رد عليه هلال بمقولة سمعها من أبيه “شيل الخرا على الرأس ولا الحاجة إلى الناس” وأعمل لكي أجمع مالًا يعينني على شراء لوازم المدرسة للعام المقبل.

أرجوك يا أستاذ رجاء وبكل أمانة ألا تذكر هذه الأشياء لذلك السبب الذي ذكرته آنفًا، تحياتي القلبية”.

أي مثلبة تظنها؟
إنها صورة نقية، شكرًا لك من القلب يا صديق العمر، نعم يا عزيزي كلامك وسام شرف على صدره، لقد رأيت هلال بأم عيني لأني أقصد زوج عمتي أبا حسن الزاير دون غيره لشراء اللحم. يناولني هلال بابتسامته المعهودة وبملاطفته الذكية، ويداه ملطختان بالعرق ودم الذبائح، دم الكفاح يسري في عروقه منذ الصغر، ففي كل موسم صيفي يتنقل بين عمل وعمل دون كلل أو ملل، ضيق الحال هو من أجبره على تحمل الشقاء منذ نعومة أظفاره.

“إن عبارة «الفقر يصنع العظماء» أصبحت مؤكدة رسميًا في علم النفس بحيث خلصت مجموعة من الدراسات إلى حقيقة مفادها بأنه كلما عانى الشخص من الفقر في صغره كلما زاد احتمال أن يحقق إنجازات عظيمة.

سرحت كثيرًا وملامح هلال بين زمنين ترتسم أمامي، تناثرت الكلمات من بين أصابعي، وكأن هلالًا أمامي أقص عليه خواطر من شجن.


error: المحتوي محمي