التقنية القاتلة

لو أننا طبقنا عُشر ما نتراسله عبر مواقع التواصل الاجتماعي من مواعظ وحكم وأخلاقيات ونصائح، فضلًا عن المسائل الشرعية والابتلاءات اليومية والأعراف الاجتماعية، وخلاف ذلك من المُثُـل التي تهطل كالغيث كل يوم، لما احتجنا إلى حساب وعقاب، ولضمنَّـا دخول الجنة بتذكرة مفتوحة، وصرنا في أعلى عليين برحمة رب العالمين.
نحن نتفنن فعلًا فيما نرسل، ونختار بدقة ما هو نافع على مستوى النفس والفرد والأسرة والجماعة والناس جميعًا، ونهديها كباقة ورد لمن نحب، ولكن للأسف لأن الحقيقة تخالف ذلك تمامًا، ولأن ما نمارسه في الواقع يتعارض في أغلبه مع ما نرسله ونقرأه، فضلًا عما نتعلمه كل يوم، إما بالقراءة أو المشاهدة أو الاستماع، والأكيد الغريب أن معظم ما نقوم بإرساله لا نعتني بقراءته أصلًا، بل في الغالب أننا نرسله كما هو، وكذا يفعل به الآخرون تقريبًا، إضافة لذلك فإن الغالبية منا يحرصون على إنشاء رسالة جماعية في تطبيق الواتس أب وما شابه ويضم إليها خاصته من الأقارب والأصدقاء ويحرص على إرسال الرسائل المنتقاة والتي يختارها بدقة ابتداءً من دعاء الصباح، وحتى قراءة دعاء ما قبل النوم، وما بينهما حدث ولا “عجب”، وكأنك تقرأ قرآنًا منزلًا.
إذا كان همنا الفائدة، فلنفعل ذلك مع أنفسنا أولًا وأخيرًا حتى نكون مؤهلين لوعظ الناس وإرشادهم، وهيهات لنا ذلك، ونحن لاهون في الأساس، وغائبون في غياهب الترف والتسويف، والحمد لله أننا نجد وقتًا للصلاة والتي نقضيها كيفما اتفق، سواء في المنزل أو جماعة، فضلًا عن واجباتنا الأخرى، وهذا حديث آخر ذو شجون نتركه لأهله حتى لا نرجم فيه بالغيب.
أمر آخر وهو أننا أوجدنا لأنفسنا عوالم افتراضية خيالية في هذه المواقع صدقنا فيها أننا نعيش الحقيقة، وكأننا في مكون رسمي، أو منظومة فعلية أو قبيلة حضرية أو بدوية يرأسها علية القوم، يذكرني ذلك بطفولتنا سواء أصدقاء أو أقارب حين كان الكبير فينا هو الآمر والناهي في الشلة أو الصحبة، وهو يجوب بنا الحارات والساحات والبحر والبر.
علينا أن نعيش الحقيقة والواقع ونحكم العقول، ونصحو من وهمنا المطبق، والذي أخذنا إلى حيث أصبحنا أضحوكة في بعض حالاتنا، علينا بدل هذا الإسفاف المفلس أن نستفيد من هذه التقنيات بدل أن نصرف أوقاتنا دون فائدة ترجى، فلقد أضاعت منا هذه المواقع الكثير من أوقاتنا، وأماتت إنسانيتنا، وسببت لنا شروخًا في العلاقات، وتوجس في القلوب، وصنعت خصومات واضحة بسبب سوء الفهم والتسابق نحو الأنا والشخصنة، في الوقت الذي يمكن استغلالها في المنفعة والتواصل الجدي الذي يفرز تشكيلات ذات مردود حقيقي على المجتمع والأسرة أفراداً وجماعات، وليس الالتهاء بما لا يتناسب مع ثقافاتنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا، وكذلك مع أعمارنا والتي نحن غافلون عنها بين رسالة هنا وأخرى من هناك، فتنصرف الأوقات دون إدراك أننا في طريق لا نهاية مفيدة له.
كم لعبت بنا هذه التقنية القاتلة، وفتنتنا بزخرفها، وأغرقتها في هواها الذي لا يليق بنا.
هذا نحن الكبار فما بال الصغار الذين أخذتنا عنهم ونسيانهم أو تناسيناهم في وقت كان يجب أن نلتفت فيه لهم، ولكننا كما هم ضعنا في لحظات العبث بالقيمة الإنسانية.


error: المحتوي محمي