سمار كانون

في إحدى ليالي كانونِ الطويلة، أبريق شاي على نارِ المدفأةِ التي أشعلت الرقةَ والفكرة، امتحنني صاحبي: هل أنا شخصية اجتماعية يجذبني التواصلُ مع البشر، أهش لهم وأبش، أجيد الكلامَ والثرثرة، قادرٌ جدًا على جذبِ الآخرينَ، عندي كمية من النشاطِ والطاقة حين العملِ مع الآخرين، تبدو عليَّ أماراتُ التفاؤل والمزاجِ والمزاحِ الحسن؟ أم أنا انطوائي الشخصية، أنسحب من كل المعارك، أحب الميلَ والعزلةَ والابتعاد عن العلاقاتِ الاجتماعية؟ قلت له: أنظرني حتى الصباح!

افترقنا، طال الليلُ، استلقيتُ على الفراش ثم سألتُ نفسي؛ من أنا؟ فتحتُ كتابَ الشعر وكانت الصفحة تقرأ:
عَوى الذِئبُ فَاستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذا عَوى
وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيـــرُ
يَرى اللَهُ إِنّي لِلأَنيسِ لَكـارِهٌ
وَتُبغِضُهُم لي مُقلَةٌ وَضَميــرُ
فَلِلَّيلِ إِن واراني اللَيلُ حكمُهُ
وَلِلشَمسِ إِن غابَت عَلَيَّ نُذورُ

اتصلت بصاحبي وقرأتُ له الكتاب، قال: يا صاحِ إنكَ من الشخصياتِ الانطوائية التي تفكر وحدها وتعمل وحدها وتعيش وحدها وربما تموتُ وحدها. قلت له: مهلًا، ربما نمتُ على بطنيَ المنتفخةَ البارحة وإلاَّ أينَ حبي للربيع؟ أين حبي للسلام؟ أين حبي للحمام؟ أنا الذي لي في الحياةِ نظريات أكتبها كُلَّ يوم! ولولا الحياء والدين لذكرتُ المُدام، سوفَ أعود لكَ في الغد. أويتُ للفراشِ خفيفَ البطنِ ثم قرأَ الكتابُ:
لَقد قَلّ أنْ تَلقى من النّاسِ مُجمــلًا
وأخشَى، قَرِيباً، أنْ يَقِلّ المُجامًـــِلُ
وَلَستُ بجَهمِ الوَجهِ في وَجهِ صَاحبي
وَلا قائِلٍ للضّيفِ: هَل أنتَ رَاحـــِلُ؟

أفرحني تشخيصه وقلت له: إذاً أنا بخير، السكينةُ في الوحدةِ وفي الوحدةِ السلامة، وكما يقول جرير: “أبشر بطولِ سلامةٍ يا مربعُ”. ضجيجُ الحياةِ يجبر البشرَ أن يصنعوا مرايا يحاكون أنفسهم، تولد المرايا أشخاصًا يشبهونهم وتشبعهمْ من جوعِ مصاحبة من لا يشبههم وإلا ليس في العالمِ محض انطواء أو محض انبساط في نفسياتِ البشر. نحن بكرةً في حالٍ وأصيلًا في حال وعشيًا في آخر!
وشِبْهُ الشيءِ مُنجَذِبٌ إلَيْهِ
وأشْبَهُنَا بدُنْيانا الطَّغـــامُ

في دروبِ الحياة واجبٌ علينا أن نترك مسافاتٍ بين السائرينَ معنا، نسير في المسافاتِ بأمانٍ من بارودِ الكرهِ وتحمينا من حماوةِ نارِ العشق. ذاكَ تقول له العينُ “فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ” وهذا تغنيهِ أوتارُ القلب:
وقد زعمـوا أن المـحـبَّ إذا دنــا
يَملُّ وَأنَّ النَّأْيَ يُشْفـِي مِنَ الْوَجْدِ
بِكُلٍّ تدَاوَيْنَا فلـمْ يُـشْـفَ ما بِنــَا
على أنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
على أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ ليسَ بِـنـافـِعٍ
إذا كان مَنْ تَهْواهُ ليـس بِـذي وُدِّ

تواعدنا إن جاءَ كانونُ أبرد، تسامرنا وزدنا حماوةَ نارِ الغرامِ تكفينا عن نارِ الكوانين.


error: المحتوي محمي