قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر الآية: 19].
حب النفس هو أحد الغرائز المودعة في الإنسان ومجبول عليها بل هي أهمها، وهذه الغريزة تحرك الفرد نحو إبعاد ألوان الضرر والأذى عن نفسه والتحرك نحو كل ما يجلب له منفعة، ففي كل أبعاد حياته ورسم أهدافه وآماله وتكوين علاقاته وتناول طعامه والوقاية من الآفات والأمراض نجد المحرك له هو ومض فكره الواعي بالأضرار والمصالح، فلا يمكننا تصور إقدام إنسان عاقل على فعل ما يضره، فأنى له بنسيان نفسه المفضي إلى فتح باب الآلام على مصراعيه حينما يقدم على معصية جبار الجبابرة؟!
دوافع متعددة تتسبب في انطلاق المرء نحو نسيان نفسه والتعامل بغفلة عن الضرر الكبير والهلاك الذي ينقاد إليه كالأعمى، بمعنى أن يتصرف كالذي لا يراعي منافعه ولا يعي بالمخاطر المحدقة به جراء تصرفاته اللامسؤولة، والتي تدفعه نحوها نزواته وأهواؤه في لحظات لا يعي بحجم الآثار والويلات الناتجة عن سخط الله تعالى، كطفل يمسك بعود ثقاب يعبث به حتى يشعل حريقًا هائلًا قد يكون هو أول ضحاياه، وذاك المسكين الذي يقترب في كل يوم كثيرًا من مصير لا يتمناه له حتى من يحقد عليه ويتشفى بسوء حاله ومآله، فكيف يقدم بمحض إرادته وكامل وعيه على ما يكون جزاؤه جهنم؟
لعل غروره أخذه بعيدًا نحو انتفاخ ذاته وجحد نعم خالقه، فاعتد بعقله وقدراته وصحته فحسب أن له إرادة تتحقق متى ما أراد دون مانع لها، فكان له أمل وكأنه يعيش الدهر مخلدًا، فما استمع لموعظة تبصره بحقيقة وجوده ودوره الحقيقي حتى حانت منيته.
ولعل غفلته وانشغاله بتحصيل معاشه بنحو الجشع والطمع الذي لا حد له، وتولعه بزينة الدنيا حتى استفرغ كل وقته وجهده في جمع المال واقتناء الدور والعقار، فما حانت منه ساعة تأمل بحال أهل القبور الذين غادروا الدنيا خالية أيديهم!
وأما من أبصر حقيقة الدنيا الفانية وعرف مهمته الأساسية فيها، والتي هي ميدان عمل عليه أن يستغل وقته فيحول أجزاءه إلى مجموعة من الأعمال الصالحة، قد هذب نفسه وانعكس ذلك على جوارحه فضبطها وفق الورع والخشية من الله تعالى، فراقب عمله ووضع حدًا لشهواته لكي لا تتفلت نحو خط الحرام، وأحكم تصرفاته تبعًا لما يمليه عليه عقله الواعي فلم يفسح المجال لشهواته أن تقوده كالأعمى.
وأما من نسي نفسه وعرضها للعقوبة والعذاب فهو من غفل عن نعم الله تعالى، وغاب عنه المصير والرحيل والوقوف للحساب بين يدي من لا يظلم عباده، وظن خاطئًا أن أموره يجري تدبيرها وتصريفها وفق هواه وليست بيد حكيم عليم يدبر شؤون الكون وما فيه، ونسي ربه فلم يقابل نعمه بشكر العبادة والخضوع، بدلًا من الخوض في عرض الدنيا الزائل واللهو وكأنه مغفول عنه!
وفي كل ما حوله وفي نفسه دليل على الافتقار للغنى المطلق، فمرضه وفقره وحاجته للغير كلها رسل إنذار وتحذير له ولكن أذنه لم تصغ لذلك، والموت في كل يوم يخطف قريبًا أو فردًا من مجتمعه فنسي نفسه ولم يخطر بباله أنه غدًا يرحل مثلهم.
نسي هذا المسكين نفسه عندما سلك دروب الشهوات وضعفت إرادته الممانعة عن المعصية والقبائح.
ونسي نفسه عندما تخلى عن إنسانيته وقيمها فجعل مصالحه معيارًا لأفعاله، فعاش اللؤم والانتهازية والنفاق الاجتماعي والطغيان، فجعل مبتغاه وسعادته تحصيل الملذات، ولم يجعل له من ذكر الله تعالى والوقوف بين يديه واستشعار عظمته أنسًا وطمأنينة.