{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
حلف الفضول:
تحدثنا في الأسبوع الفائت عن حلف الفضول، وقلنا بما ملخصه:
إنَّ نموذج التعايش في مكة مع الآخر قبل البعثة يدفع المسلمين الذين يعيشون في مثل تلك الظروف -في أي زمان أو مكان- إلى التمسك بعقيدتهم وعدم التفريط في ثوابت وأصول الإسلام مع الالتزام بمكارم الأخلاق التي تؤسس وترسخ تلك العلاقة مع الآخر بما يضمن السلم والاستقرار الاجتماعي، ويكشف عن حقيقة الإسلام وسماحته أمام العالمين.
وثمّة مبدأ في العلاقات الدولية أكده الإسلام ألا وهو: التحالف واحترام المواثيق والعهود في العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول. شريطة أن ينطلق هذا التحالف على أساسٍ متين في احترام حقوق الإنسان والدفاع عن المظلومين. يقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90). وبهذه المبادئ جاء القرآن.. فإنّه يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن العدوان على كرامة الإنسان ونفسه وماله وعرضه.. وجعل مهمة تحقيق العدل وحفظ الأمن مسؤولية الدولة في الإسلام، كما هي مسؤولية كلِّ إنسان في حياته المجتمعية..
والرسول (ص) -الداعية إلى هذه المبادئ- نراه يعمل على الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم، كفردٍ في مجتمع، وكنبيٍ مبلغٍ للرسالة، وكحاكمٍ منفّذ للشريعة والقانون.
ويحدثنا التاريخ عن موقف إنساني فذ فريد للنبي محمد (ص) قبل بعثته، أعطاه القيمة الكبرى بعد البعثة.. وهو موقفه في حلف الفضول..
إنّ حلف الفضول كان تجمعًا وميثاقًا إنسانيًا تنادت فيه المشاعر الإنسانية، وأضاءت فيه العقول؛ لنصرة الإنسان المظلوم، والدفاع عن الحق المضيع، لم تُحدثه سلطات، ولا قوى دولية، بل أنشأته قوى اجتماعية بدوافع إنسانية، وإحساس وجداني عميق بضرورة نصرة المستضعف والمظلوم..
روى اليعقوبي في تأريخه ما نصه: “حضر رسول الله (ص) حلف الفضول، وقد جاوز العشرين، وقال بعد ما بعثه الله: “لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ”. ومن هنا كان حلف الفضول معاهدة مجتمعية مبكرة، واتفاقاً على مناهضة الظلم وإيقاف الظالم أمام سلطة المجتمع، وإن لم يكن للدولة حضور أو وجود.. فكل المواثيق الدولية التي تحترم الإنسان وتدافع عن حقوقه يقرّها الإسلام حتى لو جاءت من غيره أو وضعها الآخرون.
وعلينا أن نعي أنّ موازين القوى ليست هي التي تمنح العقود والمواثيق شرعيتها، وإنما الذي يعطيها الشرعية هو ما تملكه المواثيق من عناصر الحق ونصرة المظلوم.
فالظلم مهما أُعطي له من عناوين دولية برّاقة كعنوان (الديمقراطية) -مثلاً-، فإنّ ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئًا؛ فالعناوين لا تبدّل حقائق الأمور وطبيعتها.
وعلى هذا الأساس، نحذِّر من الانتقائية في تطبيق المواثيق والعهود، وألا يُفسح المجال للقوة الغاشمة أن تفرض نفسها على ساحة هذه المواثيق على المستوى الدولي انطلاقًا من قدرتها على الضغط هنا وهناك وعلى تزييف الحقائق، حيث تدّعي -زورًا- أنّ ما تقوم به إنما هو لتطبيق هذا القانون، مع أنها تنطلق من نزوة العدوان وحبّ السيطرة والاستيلاء.
ومن منطلق حلف الفضول، فإننا ننظر إلى أي توافق يتمّ على الساحة الإسلامية وإلى أي تقارب، وخصوصاً بين السنة والشيعة، وندعو كلَّ العلماء والمثقفين الغيارى إلى رصد هذا التقارب وما يحمله من إيجابيات في محاولة لتعميمه في الساحة الإسلامية كلها، وحتى في الساحة الوطنية، وملاحقة ما فيها من سلبيات للعمل على معالجتها بالطريقة التي تحفظ توازن الساحة الإسلامية والوطنية على السواء؛ لأنَّ أي تقارب يُفضي إلى التعهد بعدم الاعتداء ويجمع صفوف المسلمين ولا يفرقها يمثّل حماية للدين الحنيف وللمجموعات الإسلامية وللمجتمع المدني كله.
ونحن في عصرنا هذا في حاجة ماسة إلى ولادة حلف عربي/ إسلامي للغرض نفسه، وإن كانت هناك هيئات ومؤسسات من وظائفها رفع الظلم عن المظلومين وكفّ الظالم عن ظلمه، وحماية الضعيف والفقير، ولكن هذه الهيئات فُرِّغتْ من مضمونها، وتسير في ركاب القوي وإن كان ظالمًا معتديًا، وتتخلى عن الضعيف وإن كان مظلومًا معتدى عليه! ومن هنا فإنّ تشكيل حلف جديد أهون وأيسر من إصلاح هذه الهيئات القائمة.
وإذا كان حلف الفضول قد تشكل بسبب وقوع ظلم من فرد واحد على فرد واحد، فكيف بنا اليوم والظلم يقع من شعب على شعب، ومن دولة على دولة، ومن أمة على أمة، ومن حكام طغاة على شعوب بأكملها..
حقن الدماء:
ومن مظاهر تعاونه (ص) مع قومه قبل البعثة مساعدته إياهم في حقن دمائهم، ورفع التنازع بينهم، ودفع شر مستطير كان سيحيق بهم، وذلك: أنه بَنَت قريش الكعبة وتقاسمتها أرباعًا، فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود تنازعت القبائل أيها يضعه موضعه حتى كادوا يقتتلون، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل عليهم من بني هاشم.
فطلع رسول الله (ص)، فقالوا: هذا الأمين قد جاء فحكّموه فبسط رداءه، ووضع الحجر فيه، ثم قال (ص): يأتي من كلّ ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبدالشمس، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبدالعُزّى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه ووضعه النبي (ص) في موضعه (السيرة النبوية لابن إسحاق: ص 119، والكافي: ج 3 ص 225).
ولأهمية هذا الحدث روى داود بن سرحان، عن أبي عبدالله (ع) قال: “إنّ رسول الله ساهم قريشًا في بناء البيت، فصار لرسول الله (ص) من باب الكعبة إلى النصف ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود” (من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 247 ح 2323).
إنَّ نموذج التعايش في مكة قبل البعثة، حيث كان (ص) يُعرف فيها -قبل البعثة- بالصادق الأمين؛ ولم يعرف عنه أبدًا أنه خان أمانة أو نقض عهدًا أو كذب يومًا. وهذا يدفع المسلمين الذين يعيشون في مثل تلك الظروف -في أي زمان أو مكان- إلى التمسك بعقيدتهم وعدم التفريط في ثوابت وأصول الإسلام مع الالتزام بمكارم الأخلاق التي تؤسس وترسخ تلك العلاقة مع الآخر بما يضمن السلم والاستقرار الاجتماعي، ويكشف عن حقيقة الإسلام وسماحته أمام العالمين.