التباشير التي ملأت أركان القديح، وأسمعت صداها للماضي الجميل الذي يبدو وكأننا انتبهنا للحظة لنقيم عليه عزاء الخسارة والحسرة، هي تباشير مشروعة، لأنفس عاشت اللحظات والذكريات، عند ذلك النبع الخجول والذي يحاول أن يفور على جنبات عين ماء لا تزال جدرانها رغم الطمي والطمر والوأد، تقول إن نخيل رطب الغر اصطبغت واكتسبت لونها وحلاوتها من لوني ومن اسمي أنا عين الغرة، والتي بقيت رغم الجور أنام بقربكم وأداري أطفالكم وهم يلهون ويلعبون فوقي، وأحتضنهم في قربي وفي قلبي، وأعتذر فقد داهمني الشوق لكم، لأبكي في لحظة خانتني فيها دموعي، وبللت التراب فوقي فعانقني خوفًا، وكشفني لكم لكي أراكم وتروني، ولكني أمسكت عن البكاء، فلربما تسيل الدموع وتجري جريان مياهي القديمة فلا تلقى الأراضي التي تضمها، ولا أشجار النخيل لترويها، ولا السدرة ولا اللوز والليمون والموز والرمان فتزيل عنها غبار الاصفرار، وكآبة الاغتراب.
لو أسلت الماء كما كان فلربما أغرقت بعض البيوتات الفقيرة، ولربما تضرر مني المحروم والمسكين، وإني قد رأيت مطر الساعات القليلة كيف عملت في البشر والحجر، وعطلت أرجل الساعين وعزيمة المصلين، وواجب المعزين.
لقد رأيت الحفلة المقامة حولي، وتلك الوجوه التي اعتادت الظهور ساعة الفزعة، واعتدتم رؤيتها كل لحظة، يستغفلون الوقت والمكان وكأنهم أتوا لينقذوا الماضي، وهم لا يدرون أصلًا ما هو الحاضر حتى يلتفتوا لما كان أجمل اخضرارًا وازدهارًا وأزهارًا وثمارًا.
نعم أنا إحدى أمهاتكم التي احتضنتكم، وغسلتكم وداعبتكم وزفتكم إلى مخادع الهناء، وغرف السعادة، ولكني اليوم أراكم بحاجة لما هو أهم مني، فبدلًا من أن تلحوا عليهم بإعادتي وبعض أخواتي للحياة، قولوا لهم أن يصلحوا الحال هناك فوق أرض الحاجات وبين جنبات الطرقات، خاطبوهم في البلدية والصحة والزراعة ليستوعبوا مرضى تكسر الدم، وأقسام الإسعاف، وزيادة أسرة كبار السن والذين لا يعلم عنهم بشر ولا جن.
خاطبوهم لكي يكملوا مشاريع النفع العام ويسووا الطرقات ويزيلوا العشوائيات. خاطبوهم ليعيدوا النخلة بدل تشريحها وبيع قلوبها أمام أعين المتحسرين عليها، وأنظار الذين لا يعرفون قيمتها وماهيتها، وليعيدوا لنا الاخضرار وأشجار الجوري والريحان، نعم نريد البلاد كما كانت حتى أعود أنا وأسقي الزرع وأروي القلوب وأداعب الصبية والبنيات كما كنت، وإلّا اطمروني مرة أخرى ودعوني وانصرفوا غير مأسوف علي، لأنني لا يمكن أن أعود، ولا أرى مكانًا أجري فيه بينكم لأرتويكم محبة واشتياقًا وحنانًا.
دعوني، فلن يحدث شيء سوى أنهم سوف يسجنوني خلف قضبان الفرجة.