لا أعرفه!

يثار كثيرًا التساؤل عن العوامل الكامنة للتغير المفاجئ لشخصيات من حولنا في أسلوب حديثهم وتعاملهم معنا، فهل هي الظروف تعمل كالرياح العاتية في تغيير وجهة المراكب المضطربة؟ أم أنها هوياتهم الحقيقية أخفوها بالتواري خلف أقنعة قاسوها وفصلوها بحسب طبيعة شخصية الآخر؟

تتباين الآراء ما بين من يرى أن الظروف الصعبة القاهرة يمكنها أن تحدث تحولًا هائلًا في الإنسان من خلال مراجعة قائمة أولوياته ومصالحه وما يؤمن أهدافه المستقبلية، فوقوفه على هذه الضفة لا يعني قبوعًا دائمًا لا يتزلزل ولا يتغير، بل هو وليد ما توصل إليه من فكرة بأن هذا الأمر أفضل الخيارات، ومتى ما وجد أن مصالحه تتقوض انتقل بسهولة وبلا تردد إلى ضفة أخرى من دون خجل أو تردد.

وتتعدد الآراء حول هوية هذا الفرد ما بين نظرة سلبية تراه انتهازيًا مخادعًا استغل طيبة أو سذاجة الآخر، وما بين نظرة إيجابية ترى أن حركة الإنسان تبعًا لما يؤمن منافعه بغض النظر عن أي شيء آخر، فمن حقه أن يختار ما يريد – بزعمهم!

فلا تتفاجأ برؤيتك لشخص ما يتحدث بنحو مغاير تمامًا لما كان ينتقده، أو يتصرف بسلوك طالما كا يراه معيبًا لا ينبغي فعله، فالأمر أسهل من بقائك بحيرة ودهشة من تحولات الآخرين وتفسيرها، فاليوم يختلف عن الأمس وهو يتبنى ما يراعي مصالحه، ولا يقبل فكرة وصفه بالانتهازية أو التلون أو الخداع أبدًا، فهذا تجاوز يرفضه ويطلب احترام نظرته!

وهناك من تبنى فكرة الأصالة في الشخصيات، فيرى أن بيئة وتربية الفرد تؤثر في طبيعة تفكيره وتعامله مع الآخر وما يحمله من آمال وطموحات، وبالتالي فإن تلك الأطر السلوكية تحدد هويته التي يسهل التعرف عليها من خلال التعامل والحوار معه، فذاك الإنسان الطيب والمتسامح تبقى تلك الصفات عنوانًا له تبرز بشكل تلقائي مع أي تواصل معه، ومن يتصف بالانتهازية أو الأنانية أو الحسد والكراهية أو الشك والغيرة الزائدة أو المزاجية وغيرها من الصفات السلبية، لا يمكنه أن يتملص منها أو تتغير قائمة تصرفاته في أي حال أو ظرف يطرأ في مجريات حياته، فالإنسان وليد الأفكار القابعة في ذهنه وتظهر بشكل محسوس على تصرفاته وتعامله.

وليس معنى ذلك أن محددات شخصية الفرد الأخلاقية لا يمكن تغييرها أبدًا؛ لأنها كالجينات الثابتة فيه المحددة لطوله ولونه ونطقه ومشيه وغيرها – كما يدعي البعض -، ولكن تصرفاته نابعة من طريقة تفكيره، ومتى ما تغيرت آراؤه بقناعة تامة تبدلت إلى شيء جديد، ورسالة الأنبياء والمصلحين الإصلاحية والتهذيبية للنفوس شاهدة على ذلك، إذ استطاعوا صناعة شخصيات عظيمة كانت تعيش الجهل والتخلف والبؤس والعبثية في حياتهم، وإذا بهم يحملون لواء العلم والهمة العالية والأخلاق الحميدة.

ولكن رؤية الأصالة تقوم على أساس فكرة مفادها؛ بأن ظاهرنا نابع من كوامن في دواخلنا نتصرف بحسبها، وهذا المكشر عن أنيابه – مثلًا – بنحو لم نألفه أبدًا لم يتغير فجأة، بل هو نزع لقناع أقنعنا به ولم نحاول أن نتبين حقيقة شخصيته من خلال اكتشاف مواقفه المتعددة، بل سرنا خلف رؤية عاطفية أعمتنا عن الحقيقة.


error: المحتوي محمي