أتقدم إلى مقام سيدي ومولاي صاحب العصر والزمان (عج) وإلى مراجعنا العظام وللأمتين العربية والإسلامية من علماء ومفكرين وشعوب بأطيب التهاني والتبريكات بهذه المناسبة الشريفة ذكرى منقذ البشرية من الظلام سيدي ومولاي محمد (ص).
هذه الذكرى التي تثير وعي كل مسلم ووعي كل من يعرف شخصية هذا النبي ودورها الإنساني العظيم من الخلق والحرمة كما جاء في كتاب الله ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ و﴿لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾ٌ هذا النبي وهذه الشخصية التي غيرت مجرى التاريخ بسيرتها العظيمة ومناقبها الشريفة من إنقاذ هذه البشرية من الظلام الذي كان مخيمًا على هذه الأمة.
تستعيد أمّتنا اليوم ذكرى ولادة محمد (ص) طفل مكة المبارك، وصبيها اليتيم، ذلك الذي عرف جادّا في مسيرته، منضبطًا بعقال أخلاقه دون رقيبٍ من خارجه، متحرّرا من قيد مشايعة أقرانه من شباب مكة الغارقين في الشهوات الجاهلية، شاب اكتمل جماله باكتمال محاسن خصاله، فعرف في جزيرة العرب بالصادق الأمين.
تمرّ الأيام فلا يزداد إلاّ رفعة وسموّا، حتى إذا قارب منتصف عمره تخلّى من هموم المعيشة إلى حيث الصفاء، وحيدًا في وحشة غار حراء، يتحرّى الحقيقة، ويتفكّر في شأن الخلق والخالق وسُبل إصلاح العبثيّة والفساد، يطلب إجابات أسئلته الكبرى المحيّرة عقله، والموقدة فكره، يريد معرفة اليد التي قلّبته وما زالت في الأحوال على امتداد عمره لتُفقده أباه جنينًا، ثمّ أمَّه طفلًًا، ثمّ جدَّه صبيًّا، تُفقده العائل بعد العائل وتُنقض ظهره، كأنّها تغار إلاّ أن تُعيله هي، ليأتيه الجواب: أن اقرأ كتاب حياتك ضمن كتاب الحياة، اقرأه باسم ربّك ستجده منتظمًا في عقد فريد، صاغته إرادةٌ حكيمة، ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾، الرحمن هو مَن يتّمك ورعاك، فاقرأ باسمه كتاب الخلق وأطوار الحياة، الرحمن من هذّبك وربّاك فانظر بعينه إلى كلّ شيء مِن حولك، ستجده في كل نفَس ومع كل خطوة.
هكذا صنع محمّد على عين الله، محمّدٌ بإرادته الحرّة الواعية أراد الله فاستخلصه الله لنفسه، أراده ليكون الصلة بين الأرض والسماء ليستنقذ الإنسانية جمعاء: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، أرسله للناس ليحيي معالم دين الفطرة بعدما اندرست بطغيان منظومة الكذب والتضليل والإلحاد، أرسله ليناضل من أجل الإنسان ليستعيد سيادته على نفسه ويتحرّر من براثن قيود الوعي والإرادة، كما فعل هو (ص) بنفسه عبر مسيرته، جاهد “ذئاب” قريشٍ لتُخلي بينه وبين الناس ليُسمعهم رسالته فقط ثم ليختاروا الانفلات من إمّعيّتهم لجلاّديهم، جاء بنهج عدم الوصاية على العقول لتثويرها، أليس يريد تحريرها؟ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾، وصايا جواهر تنتظم لتُؤسّس قاعدةً استتمّها الوحي بعدئذٍ: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، لإرساء نهجٍ يزدري الإكراه، وسبيلٍ تعتمد الدعوة السمحاء بالحكمة والموعظة الحسنة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ليترسّم الآخر بعقلِه وبقرارٍ ذاتي سبيلَه إلى التحرّر على خُطى سيرةِ المتحرّر الذاتي الأوّل (ص)، فلذلك كان رؤوفًا رحيمًا، خطيبًا مقنعًا، داعيًا ﴿بإذنه﴾ وسراجًا منيرًا، تسبق سماحتُه قوله إلى قلوب مستمعيه، ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ يصوغ القدوة التي يجب استلهامها روحًا لدى كلّ بشير ونذير.
في أفياء ذكرى مولده المبارك نذكّر أحبابنا بقيَمِه التي جاهد لإسراج رسالتها في أمّته لتُصبح ﴿خير أمّة﴾، وبتخلينا عنها آلت أوضاع المؤمنين والإنسانية إلى شتات:
وحدة الأمة أسمى غايةٍ رسّخها بين أصحابه مع تنوّعهم، أبيضهم وأسودهم، غنيّهم وفقيرهم، عربيّهم وأعجميّهم، ألّفهم بقول “لا اله إلا الله” وجعلها حصنهم الحصين، مَن دخله -ولو بعد عداء- تُصان حرماته: دمه وماله وعرضه، قاعدةٌ لم يرحل (ص) حتى أعاد تأكيدها ببيانٍ فصيح، ليقينه أنّ هلاك أمّته بتركها، وأنّهم سيفعلون!
﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾، سعى إلى مؤاخاة الإنسانيّة كافة، وجماعة المسلمين خاصة، وصدى صوته ما زال يتردّد ضدّ مناهج التفريق العنصريّة: “كلكم لآدم وآدم من تراب”، فبيارق التفاضل بالعرق والمذهب والطائفة لا تخفق إلا برايات الجاهلية، لتستفزنا إلى معارك لا يرضاها الله وتُشاقق رسوله.
عقَد (ص) تحالفات السلم والجوار مع مختلف القبائل، مشركيها وكتابيّيها، وجنح للسلم مع الجميع بلا استثناء، فالسلام في ثقافته أصلٌ ثابت، فما بال مذاهب أمّته وطوائفها أسقطت هذا المبدأ فيما بينها ومع المختلف المسالِم؟! تالله لقد نسي محتكروا الحقّ والهدى أخلاق السلم والرشاد المحمّدية.
كان (ص) مثال الإنسان الحرّ قبل أن يكون رسولًا، فالحرّية الذاتية تُعجب السماء، بها يترك المرء خسيس المسالك ويعمل بما يُرضي ضميره، الصدقُ والأمانة والكرم والشجاعة والعدل، بهذه القيَم الفطريّة تاجر مع الجميع، ثمّ بُعث لإتمام مكارمها على قومه والعالمين، فأيّ عذرٍ لنا إن تجاوزنا -كدينيّين ومذهبيّين- تلك القيَم ومنبعها الضمير الحرّ قبل مشكاة الدين؟ لم خسرنا أشدّ أنوارنا بريقاً؟!
بهذه الذكرى المحمّدية المسرجة للاستضاءة والانتهال، نسأل الرحمن تقويمنا على نهجه الوضّاء؛ بإفشاء المحبة والتآخي والتراحم والسلام بين أبناء أمّته، لتعود الشاهدة بقيمها الخيّرة على الأمم، رافعةً لواء مبادئ الحمد التي يُباهي بنا محمّد (ص) سائر الأمم، هديّةً منّا بمولده إليه، بدل أن نكون سُبّةً وخزيًا عليه.. (صلوات الله عليه).