عندما كنا نستكشفُ عن النفطِ والغازِ في المياهِ العميقةِ والصحارى بين كُثْبان الرمل، آلافَ الأقدامِ تحتَ سطحِ الأرضِ كان لابد أن نجدَ نفطاً أو ماءً أو ما يملأ الفراغَ بين الصخور. لا شيء جديد في هذا الكشفِ سوى تأكيد أنه لا فراغَ أينما كنا، فوقَ الأرضِ أو تحتها. ولو كانت الصخورُ فارغةً لانزاحت تحت ضغطِ بعضها فوق بعض واختل اتزانها.
لا يشك أحد منا أنه عندما نمشي أننا لسنا وحدنا من يملأ الطبيعة. نحن نصطدمُ بذراتٍ أقلها الهواء ولكونها خفيفةَ الوزنِ والكثافة لا يؤلمنا الاصطدام، نحن فقط من نملأ الدنيا صراخاً ونعبث بالدنيا كلها من بينِ الكائنات. لو كان الفراغ يملأ الكونَ لم نسمع أصواتَ من نهوى وربما لم نرَ ألوانَ الربيع ونحس ببردِ الشتاء.
لا فراغًا في الكون يعني أنه ليسَ هناكَ رؤوسٌ فارغة، فلا بد أن يكونَ فيها شيء وعندما يكون في طاسةِ رأسِ الإنسان لا شيءَ تسرع الأفكارُ والأشباحُ وتملؤها. لا يضرَّ الإنسانَ الأحلام والأماني والحب والخطط والعلمَ والأدبَ لكن يقتله الفكرُ الميتُ الذي يُميت ما حوله من الخلايا الحية. منحنا اللهُ ما يعادل قرابةَ الاثنينِ بالمائةِ من وزنِ أجسامنا مخاًّ ولكنه ليسَ بالضرورةِ عقلاً إلا إذا ماتَ عشب الفكرِ الفارغِ من حولهِ وصار العقلُ قادراً أن يعملَ في كل طاقته. هذا الإنسانُ الذي تغلب على قوى الدنيا وباقي مخلوقاتها وطوعها بجزءٍ مما في رأسه، كيف ستكون الدنيا لو كشفَ عن قواهِ الخيرةِ في كُلِّ طاقتها!
كما أن الكونَ لا يقبل الفراغَ ويسارع ليملأه فعلينا أن نُسرع في التمردِ على الفراغِ في فكر البشر قبل أن تملأه الشياطين. ربما من كان فارغَ اليد يستطيع أن يبتهجَ بفراغه لكن فراغَ اليدِ والعقل قد لا ينفكانِ ويتلازمانِ في الطبيعة.
ألا ترى أن الإنسان يشبه ذاكَ الذي رماهُ القدرُ في لجج البحر يصارع الموجَ العاتي من أجلِ الخروج، يلهث ليأخذَ نَفَسَاً، يرى خشبةً تقترب منهُ وتقول له: أنا قوى الخير، اركب أرميكَ فوقَ الساحل، فيشيح ببصرهِ عنها لتلك الخشبةِ الأخرى التي تقول له: أنا خشبة الشرِّ التي سوف آخذكَ إلى الأعماق مرةً أخرى.
ربما في هذه الحياة “ما لذة العيش إلا للمجانين الذين يعيشون في فص الجسدِ البسيطِ من العقل الذي لا يتعبهم وفي الآخرةِ لا يُثقلهم الحساب. ومن سواهم يعيش في هَمِّ الدنيا وفي الآخرةِ يسأله الملك: قف أينَ كان عقـلك؟
قالـوا جننتَ بمن تهوى فقلت لهـم
مـا لـذة العـيـش إلا للمـجانـيــنِ
نـعم جـننتُ فهاتواْ من جـننتُ بــه
إن كانَ يشفي جنوني لا تلومونـي
سامحنا يا ربِّ، نحن المجانين، خلقتَ لنا عقولًا وخلقت لنا أشياءً تلهت وتاهت عقولنا في جمالها عما هو أجمل وأبهى!